فرصة جديدة يجب ألا يضيعها العرب ولا الفلسطينيون

TT

«أشبعتهم شتما وفازوا بالإبل»، فما كان متوقعا؟ فقد غلب الطَّبعُ على التطبع، وقد تحولت زمجرات الشوارع وبيانات أحزاب المعارضة، وخاصة الملتحية منها، إلى مجرد كلام ليل يمحوه النهار، وهذا ما بقي يحصل منذ قيام دولة إسرائيل قبل أكثر من ستين عاما، وحيث وصلت ردود الفعل العربية إلى قيام الضباط المتحمسين أكثر من اللزوم بانقلابات عسكرية ما لبثت أن استبدلت بـ«أهداف» التحرير والرد على الجرائم الإسرائيلية التسلطَ على شعوبها وزج معارضيها في السجون وتعليق بعضهم على أعواد المشانق وتثقيب صدورهم بالرصاص.

إنها ليست الجريمة الأولى وليست الجريمة الأبشع والأكثر دموية، فقد سبقتها جرائم كثيرة، بدءا من جريمة كفر قاسم ودير ياسين إلى جريمة بحر البقر في مصر، إلى جريمة صبرا وشاتيلا بعد اجتياح لبنان والوصول إلى بيروت، إلى جريمة اغتيال خليل الوزير (أبو جهاد) ثم صلاح خلف (أبو إياد) في تونس، إلى جريمة حصار عرفات في مبنى المقاطعة في رام الله، وقبل ذلك جريمة اغتيال كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار وأبو حسن سلامة، وبعد ذلك جريمة اغتيال الشيخ ياسين وصلاح شحادة وعبد العزيز الرنتيسي.

كل هذا، وكان الرد دائما وأبدا بيانات مثل البيانات التي بثتها شاشات الفضائيات، ومظاهرات كمظاهرات الأيام الثلاثة الماضية التي استهدفت بها تنظيمات جماعة الإخوان المسلمين أنظمة بلدانها أكثر من استهدافها لإسرائيل، مع أن المفترض أن هؤلاء وغيرهم قد تعلموا من التجارب الماضية أن هناك ما هو رئيسي وما هو ثانوي، وأن الأولوية دائما وأبدا هي للصراع مع إسرائيل التي يعتبر التناقض معها هو الأساس، بينما الخلاف مع بعض الأنظمة الحاكمة هو مجرد تعارض بالإمكان حله بالوسائل السلمية وعلى أرضية مشتركة.

كان يجب، ومنذ اللحظة التي أطلق فيها جنود «الكوماندوز» الإسرائيليون النيران على أجساد المتضامنين مع أهل غزة، الذين جاءوا من 32 بلدا، أن تعلن قيادة حماس موافقتها على ورقة المصالحة مع حركة فتح، التي كانت أعدتها مصر، وأن تدعو الرئيس محمود عباس (أبو مازن) للمجيء إلى قطاع غزة ليعيش الحصار مع شعبه هناك وليتقاسم هذا القطاع مأساته، التي هي مأساة كل الشعب الفلسطيني، مع الضفة الغربية.

لكن هذا لم يحصل وللأسف، حيث غلَّبت حماس المصلحة التنظيمية الضيقة على المصلحة الوطنية العليا لهذا الشعب، الذي ابتلي تاريخيا بانقسامات حركته الوطنية وبصراع قياداته، وبدل أن تستجيب لرغبة شعبها وأن تتخذ موقف الأم الحقيقية، التي تخلت عن ابنها لغريمتها التي ادَّعت أمومتها له، عندما عُرِض عليها أن تقتسمه مناصفة مع هذه الغريمة، ذهبت بعيدا في استغلال فرصة مناسبة، كان من المفترض أن تنهي انقسام الساحة الفلسطينية، لتوجيه غضب الشارع الفلسطيني والشارع العربي نحو محمود عباس والسلطة الوطنية، وعلى غرار ما كان حصل بالنسبة إلى تقرير «غولدستون» الشهير الذي رغم تصحيحه ما اعتبر خطأ في البداية، فإنه الآن يغطُّ في سبات عميق في الملفات التي يعلوها الغبار وغطتها الأتربة.

كان على حماس أن تبادر إلى هذا على الفور ومنذ اللحظة الأولى، وكان عليها أن تعلن نهاية الانقسام في الساحة الفلسطينية وأن تضع يدها في يد حركة فتح ما دامت أنها كانت كررت التأكيد أكثر من مرة على موافقتها على دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967 وما دام أن زعيمها خالد مشعل كان قد قال في الوقت نفسه الذي كانت فيه سفن «أسطول الحرية» تنطلق من الشواطئ التركية نحو غزة المحاصرة أنه مستعد لوقف القتال ضد إسرائيل إن هي انسحبت من الأراضي التي احتلتها قبل ثلاثة وأربعين عاما.

إن المفترض، بعد أن حدث ما حدث وارتكبت إسرائيل هذه الجريمة البشعة وازداد تعاطف الرأي العام العالمي مع الشعب الفلسطيني وازداد تأييده لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة المنشودة، أن تتخلى حماس عن أنانيتها التنظيمية، وأن تعلن وقوفها إلى جانب منظمة التحرير في خوض معركة المفاوضات غير المباشرة أولا ثم المفاوضات المباشرة؛ فـ«الحديدة أصبحت حامية» ولا بد من طرقها بقوة وبجهد موحد، والفرصة غدت سانحة لانتزاع مبرر تملص الإسرائيليين من دفع استحقاق عملية السلام بحجة أنها لا تجد من تفاوضه بسبب هذا الانقسام الذي يمزق أحشاء الساحة الفلسطينية.

كان يجب أن يسارع الفلسطينيون لإنهاء انقسامهم والتوجه إلى العالم بوحدة الموقف المطلوبة، وكان يجب أن يسارع العرب إلى التوجه لمجلس الأمن الدولي بكل أعضائه الدائمين لحمله على استصدار قرار بالاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية ورفد هذا القرار بقرار آخر بإرسال قوات أممية أو متعددة الجنسيات أو حتى أميركية أو من حلف شمالي الأطلسي إلى قطاع غزة والضفة الغربية لحماية هذه الدولة التي تصر إسرائيل، من قبيل التعجيز والمناكفة، على أن تكون منزوعة السلاح.

إنها فرصة بالفعل، ولا تزال هناك إمكانية لاستغلالها في اتجاه حمْل العالم كله على إلزام مجلس الأمن الدولي باتخاذ القرار التاريخي الآنف الذكر، لوضع إسرائيل إمام الأمر الواقع ومنعها من تحويل هذه الجريمة البشعة، التي ارتكبتها بحق 32 دولة كلها أعضاء في الأمم المتحدة، إلى مجرد كرة تتلاعب بها أقدام الأحزاب والقوى الإسرائيلية المتناقضة والمتناحرة. والحقيقة أن مسؤولية هذا تقع بالدرجة الأولى على حركة حماس أولا وعلى حركة فتح ثانيا وعلى الأشقاء الفلسطينيين، خاصة الذين يعيشون في قطاع غزة والضفة الغربية.

لقد أدخلت هذه الجريمة تركيا إلى صراع الشرق الأوسط من أوسع الأبواب، والحقيقة أنه يمكن القول إن هذا الذي جرى هو أول «مناوشة» عسكرية تركية - إسرائيلية، وهذا يجب أن يُستغل قبل أن تضيع هذه الفرصة، ولكن ليس في اتجاه المراهنة على حرب فعلية بين إسرائيل و«دولة الخلافة الإسلامية»!! وإنما في أن يوحد الفلسطينيون قواهم وصفوفهم وأن يتحرك العرب وبسرعة لاستصدار قرار دولي يعترف بالدولة الفلسطينية المنشودة وعاصمتها القدس.. القدس الشرقية.