أناس جديرون بالاحترام

TT

لم يعد بإمكانهم أن يتحملوا رؤية شعب، بأطفاله الذين حُرموا من التمتع بطفولتهم وصباهم مثل بقية أطفال العالم، بنسائه اللاتي رفعن نداء الاستغاثة فلم يلتفت إليهن أحد ثم سمعن كلاما طويلا وخطبا مدبجة في المحافل الدولية عن حقوق النساء فضحكن سخرية، بشيوخه الذين فاضت أعينهم بالدمع وهم يستعرضون الأهوال التي عاشوها، برجاله الذين أرهقهم الحصار، جراحاتهم تنزف ولكنهم قرروا الصمود والتصدي للعدوان مهما كان الثمن، فجاءوا من أصقاع أوروبا ومن بلد الأناضول ومن شمال أفريقيا. هم بشر مثلنا يحبون الحياة كما نحبها ويشعرون بالحنين لأوطانهم حين يغادرونها كما نشعر، يسهرون على راحة أسرهم وأطفالهم كما نحب أن نفعل.

ما الفرق إذن بيننا وبينهم؟ فرق واحد ولكنه ليس ككل الفروق، فرق بين من أخذ بالعزائم تحقيقا لإنسانيته ومن أخذ بالرخص تفريطا في آدميته. لقد رفضوا أن يقولوا ولا يفعلوا، فقرروا أن يحولوا قناعاتهم إلى ممارسة فعلية. سئموا من الكلام الجميل والفعل القبيح كما سئموا من النداءات التي عادة ما تبدأ بـ«يجب وينبغي ولا بد»، وتساءلوا مُحقّين: يجب على من وينبغي ممن ولا بد لمن؟ أليس علينا، وفي ضوء ما نستطيع، أن نفعل. وانطلقوا ليسهموا في فك هذا الحصار الظالم على غزة، سماهم البعض مغامرين وقال عنهم آخرون مجانين، وكم قيل من قبلهم على من كان من جديلتهم، وسيقولون الشيء نفسه على أمثالهم ممن سيأتون من بعدهم. هم يعلمون كما نعلم أن الآلة الحربية الإسرائيلية آلة غاشمة، لا تعرف حدودا ولا يهمها الرأي العام الدولي مادام الكبار مستعدين لحمايتها، ولكنهم مستعدون لكل الاحتمالات. الكاتب السويدي المشهور هاننغ مانكال، كان من بين هؤلاء الذين شرفوا الإنسانية كلها بالتحاقه بأسطول الحرية.

ولد هاننغ في الثالث من فبراير (شباط) 1948، تربى عند أبيه بعد أن تركته أمه، يقضي معظم وقته بين السويد وموزنبيق، حيث أسس فرقة مسرحية، أصبح معروفا عالميا بسلسلته البوليسية والندر كورت، وأحرز جائزة نيلز هولغيرسون، ويترأس منذ 2007 لجنة جائزة الكتاب الأوروبي. صرح قبل بضعة أيام متحدثا عن رحلة كسر الحصار قائلا: «المهم بالنسبة لي أن أتمكن من المشاركة في المرحلة الأخيرة من هذه الرحلة»، وعندما سئل عن سبب تحمسه للمشاركة قال: «عندما يتكلم أحد عن مساندته لأهل غزة، يجب أن يكون واعيا أن القدر يتحقق بالأفعال لا بالأقوال، بالأفعال فقط نستطيع أن نثبت أننا مستعدون أن نقف فعلا إلى جانب ما نعتبره حقا».

هل هناك درس عملي أبلغ من هذا الدرس، الظالم مهما كان لونه الآيديولوجي يراهن دوما على القبول بالأمر الواقع والاستسلام لمقتضياته. قالوا قديما:

وأرضهم ما دمت في أرضهم

ودارهم ما دمت في دارهم

تعبيرا منهم عن القبول بالاستثناء مكرها، ولكن عندما يصبح الهوان هو القاعدة العامة التي تحكم تصرفات الأفراد تحت مسميات عدة تصبح الأصوات الحرة الخارجة عن السرب أغاريد الحياة وسر وجودها.

نعم، سقط منهم الشهداء العزل، ولكن بين جنباتهم إرادة لا تُقهر، وسقط منهم الجرحى وستظل جراحهم علامة فارقة في حياتهم ومددا معنويا لا ينضب للمحاصرين في كل مكان. هكذا يجب أن يكون الأحرار أو لا يكونون، بالمواقف وحدها تجدد الكلمات حياتها، وبترديدها فقط على الألسن والعبث بها على لوحة المفاتيح تموت. ولو لم يكن في هذا القول تحية إكبار لهذه الهامات الكبيرة لما وجدت القدرة على الكتابة أصلا. فماذا لو فكرنا لحظة في أن نكون جديرين بالاحترام مثلهم؟ حتما سيشهد واقعنا تغيّرا نحو الأفضل وفي كل المستويات.

على كثرة جرائمها في حق المدنيين العزل، فإن الجريمة التي أقدمت إسرائيل على تنفيذها فجر الاثنين ضد أسطول الحرية، تعتبر الأكثر فداحة في تاريخها لأنّها لم تفلح ولن تفلح في إخراجها إعلاميا وتسويقها عالميا، كانت دائما تدعي أنها تدافع عن أمنها، فما الخطر الذي تشكله مجموعات إنسانية متطوعة، تريد أن تمد يد العون لشعب خيّروه بين الحصار أو الحرب المدمرة للبشر والحجر والشجر؟ نعم، قد لا يكون لهذه الجريمة أثر مباشر، ولكنها ستزرع في كل مكان خرجت منه هذه الجماعات التي هبت لكسر الحصار بذرة الرفض لهذا الكيان الغاصب. ستتوهم إسرائيل أنها بهجومها الوحشي على الأسطول سترهب الأحرار الآخرين وتصرفهم عن التفكير في عمل من شأنه أن يسهم في كسر الحصار المفروض على غزة، نأمل أن يكون الأمر على عكس ما يتوهّمون.

مثل هذا التعامل الوحشي مع المنظمات الإنسانية سيحفزها على إعادة الكرة المرة والمرات، وستجد إسرائيل نفسها عاجزة عن التصرف تجاهها، وإذا نجح المنظمون لهذه الحملات في تكثيفها في الأشهر القادمة فستضطر إسرائيل إلى رفع الحصار على غزة. ومهما يكن من أمر ومهما كانت التضحيات جسيمة فسيكتب التاريخ أنه في العالم الذي تغولت فيه قوى الشر لا يخلو من ثلة قليلة ولكنها متشبعة بالقيم الإنسانية وترفض بشكل تلقائي كل أنواع الظلم مهما كان مأتاها.

ولكن هذه الجهود الإنسانية المستقلة عن الإرادات السياسية التي غالبا ما تتحكم في المنظمات الإنسانية النافذة، تحتاج إلى أن تُثمّن وتُدعم، وتثمينها ودعمها يكون بالانتصار للقضايا العادلة مهما كان انتماؤها العقائدي أو العرقي أو المذهبي، فلا تكون الضحية ضحية عند البعض إلا إذا كانت من نفس الاعتقاد الديني أو الانتماء القومي ولكنها ضحية، لأنها ضحية للمظالم، وهذا يكفيها لتكون محل اهتمام كل ضمير إنساني.

* أستاذ في المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس