انقلاب الأدوار

TT

حتى الأمس القريب، كان المأخذ الأبرز على الفلسطينيين تقديمهم لـ«خدمات مجانية» لإسرائيل بتجاهلهم الواقع السلبي لبعض أساليب مقاومتهم المشروعة للاحتلال الإسرائيلي على مسامع الرأي العام العالمي.. الأمر الذي استغلته إسرائيل في محاولتها إدراج كل شكل من أشكال المقاومة الفلسطينية في خانة المفهوم الغربي للإرهاب.

وإذا كان عذر بعض التصرفات الفلسطينية، أنها كانت تصدر عن فصائل حزبية لا تملك سوى البندقية، مدخلا إلى شرعية التمثيل الفلسطيني، فلا عذر لإسرائيل «الدولة» - الملتزمة مبدئيا بشرعة الأمم المتحدة - في ممارسة الإرهاب في موقع الردع، خصوصا حين يكون المستهدف بالردع قافلة بواخر مدنية تحمل مساعدات إنسانية لشعب محاصر.

وإذا كانت ذريعة بعض الفصائل الفلسطينية، في تجاهلها للرأي العام، يأسها من تفهم عواصم غربية «مغسولة الأدمغة» لقضية حق واضحة وضوح الشمس، يصح التساؤل اليوم عما إذا كانت إسرائيل «الدولة» قد وصلت إلى عتبة اليأس من تسليم الأسرة الدولية باحتلالها الاستعماري لأراضي الغير كي تتصرف بأبشع مما كان يتصرف أي فصيل فلسطيني كان؟

قد تكون عملية القرصنة الإسرائيلية الدموية، وفي عرض المياه الدولية، مثالا آخر على ممارسة إسرائيل لعادة تزداد ترسخا في سجلها العسكري، عادة الاستخدام المفرط للقوة. ولكنها قطعا مثال يعكس تبدل الأدوار بين الفصائل الفلسطينية و«الدولة» الإسرائيلية. ففي تصرفها المنافي لكل الاعتبارات السياسية والأخلاقية أثبتت إسرائيل «الدولة» أن رئيس «الحكومة المقالة»، إسماعيل هنية، كان أبعد نظرا منها حين توقّع، قبل عملية القرصنة الإسرائيلية بأيام، أن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع سيشكل ربحا لغزة.. وعدم وصولها ربحا أكبر لها.

وربح غزة، في هذا السياق، لا يقتصر فقط على النكسة المعنوية الجديدة التي تكبدتها «سمعة» إسرائيل في العالم، بل أيضا على تحقيق إسرائيل، مجانا، لمطلب «الحكومة المقالة» وقف عملية التفاوض الفلسطيني - الإسرائيلي، مباشرا كان أو غير مباشر.. إلا إذا كان هذا الهدف بالذات وراء تصرف إسرائيل اللامبالي بالموقف الأميركي والدولي المصرّ على تسوية تفاوضية لنزاع الشرق الأوسط.

عملية القرصنة الإسرائيلية يصح أن تكون بداية مسيرة إعادة اعتبار لـ«الحكومة المقالة»، إن أحسنت هذه «الحكومة» استغلالها لتنطلق منها بعملية مقاومة دبلوماسية وسياسية لمخطط العزل الإسرائيلي لقطاع غزة؛ عملية قد تكون، في نهاية المطاف، أكثر فعالية من صواريخها. فالتصدي الإسرائيلي الدموي لـ«أسطول الحرية» يحرج مصر ويجعل تبريرها مواصلة إغلاق حدودها مع غزة أصعب من أي وقت مضى، ليس فقط لدى العواصم العربية، بل لدى تركيا أيضا التي كانت المستهدف الأول بـ«إرهاب الدولة» الإسرائيلي، كما وصفه رئيس حكومتها، رجب طيب أردوغان، الأمر الذي تحقق فعلا أول من أمس وأدى إلى فتح معبر رفح إلى أجل غير مسمى.

وإذا كانت الرسالة «الخفية» التي ابتغت إسرائيل توجيهها إلى تركيا - عبر استهدافها بشكل رئيسي سفينة «بحر مرمرة» - هي رفض دورها الدبلوماسي الجديد في الشرق الأوسط، وخصوصا سعيها (مع البرازيل) للحيلولة دون تعرض إيران لمقاطعة اقتصادية صارمة بسبب ملفها النووي، فإن استعداء تركيا لا يخلو من مكاسب إضافية لـ«حكومة» إسماعيل هنية، ليس أقلها قدرتها على إقناع مصر بفتح معبر رفح، ومكاسب أوسع للقضية الفلسطينية عامة بإسقاطها تطلع إسرائيل إلى الفصل بين موقف الدول الإسلامية «المعتدلة» منها وموقف الدول الموصوفة بـ«غير المعتدلة».