مآثر باراك

TT

مسيرة باراك السياسية، والعسكرية السياسية، والقيادية في إسرائيل سجلت حتى الآن إنجازات مذهلة على صعيد تحويل الأصدقاء إلى خصوم، وتعزيز مكانة القوى المناوئة للسلام معها، وحشر قوى الاعتدال العربي والدولي في زاوية نائية ضيقة قليلة المصداقية والفاعلية.

وإذا كان الكاتب الإسرائيلي والمفكر المشهور يوري أفنيري وصف باراك، بمجرم سلام نظرا لإنجازاته المهولة في إعادة العملية إلى الوراء وإفشال الجهود التي بذلها العالم بإخلاص منذ بداية أوسلو حتى نهايتها، إلا أن هذا الوصف جاء قبل إنجازاته الأكثر فداحة خلال الأعوام التي تلت رئاسته البائسة لحكومة إسرائيل، التي أفرزت عودة مظفرة لنتنياهو وشارون وبينهما قليل الحيلة أولمرت.

وإذا ما قرأت حروب باراك في زمن السلام، من حيث البداية والنهاية، فإننا نرى أن طريقة معالجة الوجود العسكري الإسرائيلي في لبنان أدت إلى انسحاب أشبه بالهروب أمام استعراض قوة موفق من جانب حزب الله.. مما رفع صور الزعيم المتحدي كبطل قومي في كل بيت، وما منحه منصة خطابة يقول فيها كلاما ذا مصداقية عن هزيمة إسرائيل، وجاهزيته لمواصلة الانتصار عليها. لقد وضع باراك ختم المصداقية على خطب السيد حسن نصر الله، ليس فقط بطريقة مغادرته لبنان وإنما بالحرب الأخيرة عليه التي أظهر فيها الجيش الذي لا يقهر عجزا عن اجتياز بلدة لبنانية واحدة رغم كثافة القصف وضخامة أرتال الدبابات المهاجمة.

ذلك على جبهة لبنان.. ذات العمق المعنوي والجغرافي والتحالفي الكبير، أما على جبهة غزة حيث الرصاص المصبوب وتدمير ربع غزة على الأقل وحصارها المحكم قبل الحرب وبعدها مع غارات الـ«إف 16» على منطقة أو جبهة تكاد تكون عزلاء بالقياس مع ما لدى باراك وجيشه من إمكانيات محسومة. فقد كرس الرجل معادلة قوة بدأها ولا يملك إنهاءها، مفادها أن غزة لم ترفع الراية البيضاء، أما الرصاص المصبوب فقد صب حممه السياسية في تقرير غولدستون وموجة التعاطف غير المسبوق مع ضحايا الحصار الظالم وغير المبرر..

أما على صعيد إنجازاته الأكبر والأوسع فلقد وضع باراك قوى الاعتدال منذ زمن عرفات حتى زمن عباس - أي منذ زمن كامب ديفيد الثانية حتى زمن المفاوضات غير المباشرة - في مأزق الاستحالة وانعدام المصداقية وتراجع الرهانات. فبعد كل الذي حدث، من يجرؤ على القول إن في الأفق سلاما يستحق السعي إليه؟ ومن يستطيع رؤية ضوء في نهاية النفق بعد أن جعل باراك وقراراته وأداءه العسكري المنطقة كلها مليئة بأنفاق لا يرى نور في نهايتها؟

إن العسكرية الإسرائيلية التي يقودها باراك التي كونت لنفسها سمعة رهيبة بدأت منذ ذلك الحزيران القديم وتواصلت فيما بعده حتى وصلت بفعلها المؤثر أقصى مكان في شرق أفريقيا مع تدمير المفاعل النووي العراقي.. أضحت بفعل القيادة قصيرة النظر مجمع إخفاقات كان آخرها وأكثرها التصاقا بالذاكرة عملية الاقتحام الاستعراضي الباهت والفاشل للسفينة التركية مرمرة.

إن الذين راقبوا الأداء العسكري، قبل السياسي، خرجوا بانطباع أكيد بأن ما حدث في عرض البحر كان إخفاقا مطلقا بامتياز، لدرجة أن البسطاء والأذكياء والخبراء، أجمعوا على أن ما حدث مع السفينة لو تكرر في معالجة الملف الإيراني مثلا لكان جائزا القول: «أبشر بطول سلامة».

وإذا كان استشهاد عدد من المتضامنين في سياق عملية عسكرية غير مقنعة وغير مبررة، قد خلف ندوبا ظاهرة على وجه العسكرية الإسرائيلية، إلا أن هذه الندوب تظل مزحة بالقياس مع ما خلفته من آثار سياسية تمس صلب الاستراتيجية الإسرائيلية. فكم هو الثمن الذي يتعين دمغه لقاء خسارة علاقة مميزة مع تركيا، كانت بمثابة أهم اختراق إسرائيلي تاريخي في المشرق، وفي العالم الإسلامي؟ لم تكن علاقة عسكرية وحسب، وإنما كانت كاملة بكل المقاييس إذا ما نظرنا لحجم التبادل الاقتصادي والسياحي وغيرها من الأمور التي تقدر بعشرات المليارات.

إن ما دفعته إسرائيل لقاء نزوة سياسية عسكرية أملتها حسابات انتقامية تنتمي إلى قدرات الـ67 أكبر بكثير مما جنته، هذا إذا ما أخرجنا من موازنة الربح والخسارة، بعض أميركا ومعظم أوروبا وباقي الكون.

فماذا ستفعل إسرائيل بنفسها وبباراكها.. هل ستستمر في استعراض القوة الفاشل؟ «ولقد نسيت حكاية المبحوح».. هل سيستمر رهانها على الأداة العسكرية المتآكلة التأثير والفاعلية والقدرة على الحسم؟ أم أنها ستضع أقدامها لأول مرة على المكابح لتتوقف ثم تنظر حولها ثم تدع العقل يعمل بدلا من العضلات؟

إنه السؤال الأزلي وعلى جديته إلا أنه يستحضر إلى ذاكرتي طرفة السائق الذي دهس المواطن في شارع خالٍ..

سأله المحقق: لماذا دهست المواطن؟

أجاب: حين اعترضني في الطريق، نظرت إلى يميني فوجدت حفرة عميقة ونظرت إلى يساري فوجدت النهر العميق ولو أدرت المقود إلى أي اتجاه لراحت السيارة ورحت معها.

سأله المحقق مستغربا: إذن، لماذا لم تستعمل المكابح؟ أجاب: معذرة كنت نسيت.