أسطول الحرية بين الأقوال والأفعال

TT

اعتراض إسرائيل لسفن «أسطول الحرية» بغارة كوماندوز بدلا من تفتيش بخفر السواحل المؤدي إلى مصرع تسعة وإصابة آخرين أثار ردود فعل حول العالم، أغلبها غاضب ومدين لإسرائيل.

المناسبة فرصة للقراء لمقارنة ردود الفعل واستخلاص الخطوات التي تبدو الأكثر نفعا عمليا لمساعدة الغزاويين البسطاء، غير المسيّسين، المحصورين بين مطرقة إسرائيل وسندان حماس التي تستفيد من الحصار سياسيا واقتصاديا من إتاوات تفرضها على البضائع المهربة لدعم قبضتها على القطاع، وتتحكم في توزيع أو بيع المعونات الإنسانية التي ترسلها منظمات الإغاثة؛ بالأسلوب نفسه الذي استخدمته دكتاتورية صدام حسين البعثية للاستيلاء على الأدوية المرسلة للشعب العراقي (في برنامج النفط مقابل الغذاء) لتوزع على الطغمة البعثية، أو تباع في صيدليات بيروت.

معظم معلقي الفضائيات ومناضليها الشفهيين، وكثير من أعضاء المنظمات السياسية والأحزاب والمجالس العربية أطلقوا قذائفهم الكلامية المتوسطة والقصيرة والبعيدة المدى. البعض طالب الجامعة العربية «بسحب مبادرة السلام»، والبعض حاول المزايدة على السلطة الوطنية الفلسطينية نفسها، التي بينها وبين إسرائيل اتفاقيات سلام وتبادل تجاري وتطبيع، بمطالبتهم مصر والأردن «بسحب سفيريهما وطرد السفراء الإسرائيليين» أو «إلغاء معاهدات السلام».

ولم أسمع أو أقرأ تعليقا عن خطوات عملية قابلة للتطبيق لمساعدة أهل غزة (وليدلني القراء على اقتراح عملي واحد قد يكون فاتني ملاحظته).

ولنقارن الهبة العربية الكلامية الباسلة بمناقشة ساعة واحدة في مجلس العموم البريطاني بعد ظهر الأربعاء، بدأت بتصريح رسمي من وزير الخارجية وليام هيغ، عقب انتهاء نصف الساعة المخصص أسبوعيا لاستجواب رئيس الوزراء. والأخير، ديفيد كاميرون، بدوره، وزعيمة المعارضة بالنيابة، هاريت هارمن، أمضيا جزءا من المناظرة في توجيه إدانة شديدة لعمل أخرق تسبب في إراقة الدماء.

جدولة المناقشة، وأسئلة وتصريحات النواب، أثبتت الملحوظة التاريخية المعروفة بموقف المحافظين الأكثر تفهما ومساعدة من الناحية العملية للفلسطينيين من منطلق مبادئ المحافظين بمناصرة الضعيف والالتزام بحكم القانون، خصوصا الدولي (ويمكن الاطلاع على التفاصيل في مواقع الصحف الرصينة كـ«ديلي تلغرف» مثلا).

أغلب المشاركين أدانوا العملية، وتراوحت مطالبهم ما بين فرض العقوبات التجارية على إسرائيل، وتعطيل اتفاقية التبادل التجاري معها، إلى إرسال البحرية الملكية «لممارسة دورها التاريخي في حماية حرية الملاحة العالمية»، كما قال وزير الصحة العمالي السابق فرانك دوبسون، لحماية السفن المحملة بالمساعدات لغزة مما سماه النائب العمالي، اليهودي العقيدة، جيرالد كوفمان بـ«القرصنة الإسرائيلية»، مرورا بالمطالبة بإحالة إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي لوقوع الحادثة في المياه الدولية.

بلغت نسبة النواب، من مختلف الأحزاب، المنتقدين لإسرائيل ستة أضعاف النواب (المعروفين بتعاطفهم المسبق مع إسرائيل) الذين أبدوا فقط «تفهمهم» لقلق الإسرائيليين من صواريخ حماس من غزة وموقف حماس المعلن من أدبياتها (قرأ الوزير العمالي السابق دينيس ماكشين من ميثاق حماس عبارات عن «إزالة إسرائيل ومحاربة اليهود أينما وجدوا»)، ولم يدافع أي من «المتفهمين» لموقف إسرائيل عن العملية، بل اكتفوا بالتذكير بمسؤولية حماس.

وزير خارجية الظل (وزير حكومة العمال السابق)، ديفيد ميليباند، طالب بإجراءات فورية ودبلوماسية فاعلة لإفهام الإسرائيليين أن استمرار الحصار على غزة يأتي بنتائج عكسية لصالح حماس وليس لصالحهم، لكنه انتقد وزير الخارجية هيغ «لاستخدامه لغة دبلوماسية متحفظة بدلا من إدانة إسرائيل علنا»، وهو ما دفع المستر هيغ لاستخدام لفظ «الإدانة» ضمنيا. وكشف بأن الدبلوماسية البريطانية في مجلس الأمن كانت وراء صياغة القرار الذي يدين في جوهره إسرائيل، وأضاف أن الأمر «الأكثر قلقا للإسرائيليين هو اشتراك الأميركيين»، فواشنطن لم تستخدم الفيتو أو تمتنع عن التصويت فحسب، بل شاورها البريطانيون في صياغة القرار.

تبين الدهاء السياسي في استغلال وجود 37 من الرعايا البريطانيين (ضمنهم 12 يحملون جنسيات مزدوجة)، احتجزتهم السلطات الإسرائيلية كمبرر لعقد جلسة اضطرارية تحولت إلى محاكمة علنية للحكومة الإسرائيلية.

نواب المجلس من مختلف الأحزاب (ومنهم نائبتان) التي احتجزت إسرائيل ناخبين وناخبات دوائر يمثلونها، كرروا الاشتراط على وزير الخارجية تحميل الحكومة الإسرائيلية مسؤولية سلامة وأمن وحسن معاملة أبناء وبنات الدائرة وحقهم في مقاضاة إسرائيل.

بضعة أسئلة لخصها وزير الخارجية بلباقة ووضوح، أشارت إلى غياب أي سند قانوني لإسرائيل لمحاكمة بريطانيين، حيث لا توجد تهمة واضحة توجه إليهم. من ناحية القانون الدولي، شكك هيغ في قانونية العملية الإسرائيلية، «فاعتراض وتفتيش سفن في المياه الدولية لا يتم إلا في ظروف قصوى وله إجراءات محددة»، ردا على نواب هم في الأصل محامون قانونيون.

المناقشات دارت في هدوء شديد وبألفاظ لائقة طرحت عشرات من النقاط، موجهة إلى إسرائيل رسالة واضحة بأن أكثر ساسة العالم برودا وهدوء أعصاب غاضبون من الغارة العسكرية، وأن ضغوطا سياسية قوية تتجمع بازدياد موقف لندن تشددا مع إسرائيل، خصوصا بسبب احتجازها لرعايا التاج البريطاني.

الأهم، بالنسبة للغزاويين، أن الموقف الرسمي البريطاني (وبالتنسيق مع وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، والاتحاد الأوروبي حسب قول هيغ) هو رفع الحصار عن غزة، خصوصا في المواد الأساسية (كان توني بلير، مبعوث اللجنة الرباعية لإسرائيل وفلسطين قال للـ«بي بي سي» ظهر الأربعاء إنه لا بد «من إيجاد نظام آخر لمرور البضائع والأفراد ورفع الحصار عن أهل غزة»)، مع إيجاد نظام جديد للمرور من معبر رفح بمساهمة فاعلة من الاتحاد الأوروبي.

وهي سياسة ستعمل بريطانيا (التي أبدت الأربعاء مبادرة قيادية عمليا مع حفظ ماء وجه الأميركيين بأنهم واجهة القوة العالمية) على وضعها موضع التطبيق.

فأي المواقف أكثر فائدة للغزاويين؟ ساعة مناقشات في مجلس العموم (وراءها أيام من دبلوماسية غير معلنة)، أم الحملة الكلامية من مناضلي الفضائيات؟

السؤال الذي طرحته في أكثر من وسيلة إعلام عربية: لماذا لا يسهم البرلمانيون العرب بخطوات عملية، كتحدٍّ لأعضاء الكنيست بإثبات «ديمقراطيتهم» بمبادرة فعلية وتشكيل لجنة تحقيق قضائية محايدة ومستقلة عن الحكومة لمحاسبة المسؤولين عن إزهاق الأرواح وخسارة بلادهم الأصدقاء وإثارة تعاطف العالم مع حماس بأهدافها المعلنة بتدمير بلادهم؟

ألم تُدِن لجنة كاهان القضائية رئيس الوزراء الراحل مناحم بيغين (وكانت نهايته سياسيا) ووزير دفاعه وقتها آرييل شارون، كمسؤولين عن مذابح صبرا وشاتيلا؟

ساعتها يكون ساسة عرب أسهموا بخطوة عملية تساعد في رفع الحصارين، الإسرائيلي والحماسي، عن الغزاويين.