الأرض بتتكلم.. تركي!

TT

فجأة صارت تركيا هي نكهة اليوم، الكل يتودد للأتراك والكل يحاول أن «يبحث» عن أصول أو عرق تركي يسري في دمائه ليفخر به. تركيا اليوم قررت بدلا من أن تكون في ذيل السوق الأوروبية أن تصبح في رأس العالم الإسلامي؛ بتبنيها القضية الفلسطينية ومواجهة إسرائيل في الساحة الشعبية، وتمكنت من تحريك وتأجيج المشاعر العربية المتعطشة للزعامة. هناك تمجيد وترحيب شعبي هائلان بمكانة رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان وبالدور التركي، وبات كثيرون «يتعاطفون» مع ذلك. فبين الهزل مثل الازدياد في استهلاك القهوة التركي ومشاهدة المسلسلات التركية واللبنة التركية والكباب التركي وزيارة الحلاق والميكانيكي التركي وتحيتهم والسفر لقضاء الإجازة هناك، وبين الجد في التواصل مع المنظمات والصحف والبرلمانيين الأتراك لإبداء الشكر والمؤازرة، كان حال الشارع العربي.

ويبدو منطقيا طرح السؤال الآتي: لماذا فرح العرب «بالتدخل» التركي في «قضيتهم» العربية وكانوا «ضد» التدخل الإيراني؟ التدخل الإيراني كان مصحوبا بأجندة هائلة تعبث في صميم القضايا الداخلية للدول العربية وتهيج بعض المسائل الطائفية التي تثير الفتن والبلبلة، تعبث في المنظومة الأمنية، والأمثلة على ذلك باتت معروفة وكثيرة، وهذه طبعا جميعها خطوط حمراء لا يمكن السماح بالاقتراب منها أبدا. تركيا من جهة أخرى دولة ناجحة اقتصاديا، ديمقراطية حقيقية ذات حكومة منتخبة ورئيس وزراء درجة ونسبة شعبيته تفوق الـ80%، وبرلمان نشط وصحافة حرة ووجود أوروبي حقيقي. إنهم «أقدر» على ترويج القضية؛ فهم - بالنسبة للغرب - «يشبهونهم»، بيض البشرة وشقر وبعيون زرقاء أيضا!

الأتراك ليست لديهم أجندة «أخرى» يروجون لها في باطن القضية الفلسطينية، وبالتالي هم أجدر وأكثر ثقة في أعين العرب. إنها الآن فترة الأتراك. جاءت من قبل حقبة الماليزيين التي أنطفأ وهجها بعد خروج رئيس وزرائها مهاتير محمد من السلطة وتلاه عبد الله بدوي من بعده، لتشغل المنطقة من بعده إيران بأسلوب مختلف بالتدخل المباشر في شؤون المنطقة وتأجيج عدد غير بسيط من الصراعات البينية بشكل مزعج ومرهق ومشتت. كل ذلك يفسر «فرحة» العرب بالدور التركي لأنهم يرونه بديلا مقنعا وحضاريا وفعالا عن الدور الإيراني المريب والمرهق.

يبقى الخوف قائما من أن يكون كل ذلك «فشة خلق» وتنفيسا عن الضغط والغضب والقهر المكبوت في الصدور، جراء العجز وقلة الحيلة، في وجه الغطرسة والإرهاب الإسرائيليين أمام أعين العالم، والعالم يقف مشاهدا دون حراك. ولكن هناك شيئا ما يحدث، هناك حراك عالمي جديد (حتى وإن كان خجولا ومحدودا) ولكنه ملحوظ. هذا الحراك ناقد لإسرائيل لإزالة الحجر والضغط على غزة والسماح بتوصيل المواد الإغاثية والمعونات الطبية التي ترفضها إسرائيل بأسلوب أشبه بمجرمي وقطاع الطرق وعصابات القراصنة.

إنه انتصار معنوي محدود، ولكنه يجب أن يؤخذ بإيجابية وبجدية، ولا يتم التقليل منه ولا الاستهزاء به. المعركة مستمرة لأن إسرائيل دولة مارقة بامتياز، وطالما استمرت في غطرستها فستستمر في تدمير نفسها بشكل ذاتي؛ لأن الغطرسة والغرور حتما يولدان الجنون والغباء، وهذا ما حدث منها بحق السفن التركية ومن عليها. لأيام ولأسابيع الأرض كانت ولا تزال تتكلم.. تركي!

[email protected]