المسافة الواحدة من الجميع

TT

بعد أن أنهينا الفترة العائمة للشروع في تشكيل الحكومة، دخلنا بعد المصادقة على نتائج الانتخابات في جدول السقوف الزمنية لتشكيلها، هذه الحكومة المنتظرة باتت محل انشغال، وأيضا تعويل الغالبية، لأسباب عدة منها: إما ليروا من فضلوهم يديرون دفة السلطة، أو لآمال ومخاوف؛ آمال وجلها مبالغة، بأن تشكيل الحكومة ربما سيحل أو يضع على طريق الحل كثيرا من العقد من أمن إلى خدمات إلى استقرار وإلى تنشيط الاستثمار وسوق العمل الراكدة انتظارا وتخوفا، أو لدرء مخاوف من أن التأخر سيتيح لقوى العنف أن تستثمر الفراغ السياسي وجو المناكفات وتنفذ ضربات موجعة كان غالبا دافع كلفها الأكبر المواطن، أو توجسا من أن التشكيلة الحكومية قد لا تحظى برضا كل الأطراف وبالتالي ستلجأ الأطراف المضارة التي لها أذرع مسلحة أو تلك المرتبطة بخزانات العنف بقاعدة الأواني المستطرقة، إلى استنفار حلفائها وتفعيل أجنحتها المسلحة لاستبدال لغة القوة محل لغة التساوم بسبب ما ستعتبره يأسا من حوز السلطة عبر الآليات الديمقراطية.

لكن مع التفهم والتعاطف مع هذه الأماني التي تضيق حياة الناس لولاها، فإن سقوفها وإن كانت هي الحد الأدنى لحياة طبيعية، فإنها كناتج متوقع من طبقتنا السياسية تظل عالية ومبالغا فيها، فشكل الحكومة رسم منذ لحظة خروج نتائج الانتخابات وعند النظر معها إلى بنية الأحزاب والكتل الفائزة، فلكون هذه البنية ليست عابرة للمكونات والطوائف منهجا وسلوكا وتمثيلا، فإن ذلك حد من ادعائها التمثيل الوطني. لذا فإنه هنا لا بد من أن تشتغل معادلتان معا، وهما ضرورة حصول الأغلبية العددية يرافقها تمثيل المكونات الرئيسية، أي اقتران وتوافر قاعدتي الأغلبية مع التوافق، وهذا وفق نتائج الانتخابات يقرر بأن الحكومة لا بد من أن تتشكل من الكتل الأربع الفائزة، وهي تقريبا كل البرلمان.

موضع الإحباط اللاحق المتوقع لأماني المواطن أن هذه الحكومة ستختزن كثيرا من عوامل الضعف التي بعضها وسم المرحلة الماضية وسيستمر إلى القادمة، بأنها ستكون حكومة تسويات وتوافقات دائمة وتغطيات ومساومات متبادلة بين الشركاء، مما سينعكس على فاعلية الأداء وإضعاف وتغييب المساءلة والرقابة، لكن الأهم أنها ستكون حكومة الحد الأدنى من المشتركات، ولكن هنا تحديدا السؤال: هل أن القوى السياسية مكترثة أو منشغلة بذلك؟ وفعليا هل يأتي الاشتراك في الرؤى وتوحيد السياسات والبرنامج الحكومي، ليس المكتوب والمركون بل واجب التطبيق، في أي من أولويات هذه القوى؟ الجواب.. لن أسارع في تقريره، بل سأركن لذلك عبر تحليل «مضمون» الحوارات السياسية التي سادت منذ ظهور نتائج الانتخابات، متوقفا عند عبارة مفصحة باتت لازمة مع كل الحوارات السياسية وتصف شكل التحالفات، وهي «الاحتفاظ بمسافة واحدة من الجميع»، والتي تفهم بل هي واجبة من قيادات روحية تحتفظ بدور أبوي وتوفيقي بين الجميع أو من ملك أو شخصيات تأريخية تكون فوق الميول والاتجاهات، ولكن الذي لا يفهم أن تتبناها أحزاب سياسية يقوم أصل وجودها وتحالفاتها على التقاء واقتراب السياسات والبرامج، ولكن عندما تأخذ بها وتعتمدها هذه القوى فإن ذلك يشي بأن البرامج والسياسات والرؤى تأتي في قعر انشغالات هذه القوى السياسية، التي هي بالضرورة أطراف في العملية الديمقراطية والتي تبنى عادة على الأحزاب وإن أفل عندها البعد الآيديولوجي إلا أنها ظلت أحزاب برامج، إنه دليل آخر على أن بوصلة التحالفات مرتكزة على المصلحة وأنها تقوم على التساند للبقاء في المشهد السياسي والتصارع على صدارته، وأنها تدار بشخصنة وتستوجبها دوائر الانتفاع الضيقة للأحزاب والكتل، أن تحتفظ بمسافة واحدة من الجميع، يعني ببساطة أن لا لون لك، وأن ذلك يختزن مضمونا انتهازيا ومصلحيا لا يمكن إغفاله، فضلا عن أنه إخلال بالتفويض الشعبي وتصرف مشتط به، وهو مؤشر من جهة أخرى على قوة العامل الخارجي الذي جمعها دون جامع.

ربما يبرر ذلك بالقول بأن ليس هناك في العراق أحزاب يمين أو يسار أو وسط، أو أحزاب ليبرالية وأخرى محافظة، أو أحزاب مصنفة بناء على الموقف الطبقي أو وفقا لرؤيتها للحداثة إلى أصولية وأخرى تقدمية أو وفقا لنظرتها إلى البيئة، وبالتالي فإنه بموجب هذا التصنيف فإن الأحزاب العراقية توضع كلها خارجه، وهذا مما يعاونها على تكريس الحالة الزئبقية عندها، ويسهل لها دون تأنيب أو وازع الانتقال يوميا في التحالفات وتبديلها.

ولكن يرد أيضا بأن لا زعم يصح بأن العراق خال من الفوارق الطبقية أو من عدم التجانسات المهمة الأخرى التي بحاجة إلى التعبير عنها، وحتى لو أغفلنا ذلك على جوهريته، فإن للعراق قضايا تمس أصل وجوده وتشكله، تبدأ من شكل الدولة إلى نوع نظام الحكم إلى توزع سلطاته إلى كيفية إدارة ثرواته إلى توزيع موارده إلى نموذج اقتصاده إلى انتمائه ولا تنتهي باتجاه علاقاته الخارجية وتحالفاته الاستراتيجية، بل أزيد عليه أنه إذا كانت الائتلافات المتشكلة بغية الحكم في كل الديمقراطيات تتفق على المستقبل، فإن عندنا عليها أن تتفق على الماضي أيضا.