أيتها الحرية.. كم من القوافل ترتكب باسمك!

TT

التفتيش في الكلمات نزعة سقراطية ضارة تحرمني من نعمة اليقين المريح. الأسوأ من ذلك أنني أشعر بالحذر عندما أستمع للكلمات الجميلة التي يتغنى بها الشعراء والفنانون والمفكرون والقادة السياسيون. ومنها تلك الكلمة التي مات من أجلها البشر في كل العصور، كلمة الحرية. لعل المرة الأولى التي استمعت فيها لهذه الكلمة كانت في طفولتي، عندما استمعت لأشهر مطربي العصر وكل العصور وهو الأستاذ محمد عبد الوهاب، يعطي وصفة للحرية عجزت عن تحقيقها بل عجزت أصلا عن صرفها من كل صيدليات الزمن، بما يعني أنها لا وجود لها على الأرض، وهي: «أحب عيشة الحرية.. بين الطيور والأغصان.. مطرح ما ييجي في عيني النوم.. أنام وأنا مرتاح البال. ما دام حبايبي حوالي.. كل البلاد عندي أوطان».

غير متاح للبشر العيش بين الطيور والأغصان، المتاح فقط هو الحقول والمصانع والمكاتب والدواوين والمساكن الفاخرة والمتوسطة والعشوائية وربما معسكرات الإيواء واللاجئين، لا أغصان ولا طيور. كما أنه ليس مسموحا لك أن تنام في أي مكان، وأحبابك لن يكونوا بجوارك طول الوقت إلا إذا كانوا جماعة من «الصيّع» والبلطجية الذين لا عمل لهم. ولذلك سيكون من المستحيل أن تكون كل البلاد أوطانا لك لأن حكومة كل بلد على حدة ستقف لك بالمرصاد، ستحدد لك شروط الحصول على تأشيرة دخولها وفترة إقامتك، وربما تودعك السجن أو تقوم بترحيلك إلى بلدك عندما تتجاوزها حتى لو غنيت بأجمل الأصوات وأقواها أن كل البلاد عندك أوطان. هكذا تتضح استحالة وجود هذا النوع من الحرية. عليك أن تبحث إذن عن الحرية في بلد واحد هو بلدك. هكذا تسقط نظرية محمد عبد الوهاب في الحرية، وهو ما يدفعنا للبحث عن معنى آخر لها عند المفكرين، يقول جان جاك روسو: «ولد الإنسان حرا وها هو الآن مكبل بالأغلال في كل مكان»..

وسبقه إلى المعنى نفسه سيدنا عمر بن الخطاب عندما قال: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟»..

كلاهما اتفق على أن الحرية أمر سابق على الوجود، وهو أمر يستحق النقاش. من الصعب علي أن أصدق أن الحرية منعدمة الصلة بالنضج والقوة والمعرفة، بل ربما كانت محصلة هذه العناصر جميعا، وربما هي أيضا تمشي جنبا إلى جنب مع كل هذه العناصر في مسيرة الإنسان ومساره.

الحرية كما أراها ليست هي القدرة على الطيران مثل الطيور، بل هي القدرة على اختراع الطائرة، وهو ما يتطلب العمل الشاق وهضم علوم كثيرة للوصول إلى ذلك. الحرية إذن مرتبطة بالعمل الشاق وتنمية الواقع بما يحقق كل ما كان خيالا يحلم به البشر، ومنه فكرة العدل على سبيل المثال. من الشائع عند الكتاب والفنانين ومقدمي البرامج الفضائية أن الحرية هي القدرة على أن يكتبوا أو أن يقولوا ما يريدون، وبذلك تكون الحرية هي فتح محبس الماسورة بين مكونات الإنسان المكتسبة وفمه أو قلمه، وهو أمر ممتع بالطبع، وإن كان خطرا في أحوال كثيرة. لا تندهش من استخدامي لكلمتي محبس وماسورة، فإنهما نابعتان من ذلك التعبير الشهير «في فمي ماء» الذي يستخدمه الكتاب عندما يعجزون عن قول ما يريدون لمانع اجتماعي.

الواقع أن المواطن العادي لكي يمارس عمله يكون أكثر احتياجا للحرية من كل مثقفي الأرض، فالحرية مرتبطة بالفعل على الأرض، وكل تشكيلات الدولة وقوانينها تهدف إلى الحفاظ على حرية الفرد في العمل والإبداع فيه، وحماية المواطن من التدخل غير الحميد للبيروقراطية وغيرها، وذلك لتنمية المجتمع ككل. الحرية إذن هي القدرة على النمو والتنمية، من هنا تستمد أهميتها بل وقداستها. هكذا يمكن القول إنه في غياب قوانين تحمي حرية الإنسان - أي إنسان - في العمل المثمر، تنعدم الحرية. ومن مجموعة حريات الأفراد تتكون حرية الدولة. وعندما يحدث في ظروف استثنائية أن يعيش مجتمع ما على المعونات وما يجود به فقط أهل الخير وربما أهل الشر أيضا، فمعنى ذلك أن مواطنيه قد تم حرمانهم أصلا من الحرية. وعندما تحرم من حريتك، فلا مفر من أن تستولي عليك التعاسة وهي مفتاح كل الشرور.

الحرية سلعة لا يمكن تصديرها للآخرين، كما أنها ليست صدقة تحسن بها إليهم، تستطيع أن ترسل لهم بالمواد التموينية والطبية، غير أنك تخدعهم وتخدع نفسك عندما تستخدم كلمة الحرية في هذا الشأن. ترى من هي على وجه الأرض تلك الجهة المهتمة بالحرية إلى درجة شراء كل هذه المواد التي تم التبرع بها لحكومة حماس في غزة؟ لماذا تخفي اسمها بينما فعلها يعبر عن قوتها التي مكنتها من اختيار عناصر من أربعين دولة عربية وأوروبية، أما أكثرها تميزا فكانت تلك التي شاهدناها عشرات المرات في نشرات الأخبار تهتف: «خيبر خيبر يا يهود.. جيش محمد سوف يعود»؟

لقد ارتكبت القيادة العسكرية الإسرائيلية حماقة العمر عندما تعاملت مع قافلة السفن بوصفها موقعة عسكرية، أي موقعا لا بد لها من الاستيلاء عليه مستخدمة تكتيكات عسكرية بحتة، الأمر لم يكن يتطلب ذلك. فقد كان من الممكن إيقاف الأسطول عند المياه الدولية ثم التفاوض مع قباطنته لكي ينسحبوا أو يصلوا إلى اتفاق تتعهد فيه إسرائيل بتوصيل المعونات إلى غزة، ربما كان من الممكن أيضا إشراك الصليب الأحمر في الموضوع.

أمر آخر، فجأة اكتشفنا في مصر أن بين المعتقلين اثنين من جماعة الإخوان المصرية من أعضاء مجلس الشعب، كانا أول المفرج عنهم، عندما وصلت بهما السفينة أسدود، صعد إليها ضابط إسرائيلي ثم نادى عليهما: الدكتور فلان والدكتور علان..

أجابا: أفندم..

فقال لهما: اتفضلوا معايا..

فنزلا معه وأجرى معهما تحقيقا شكليا سريعا، ثم اقتيدا خارج الميناء ليجدا القنصل المصري في انتظارهما في سيارة أقلتهما إلى القاهرة عن طريق طابا. يقول الطبيب إنه احتج على تلك السرعة في الإفراج عنه لأن ذلك يمنعه من السلام على زملائه من أنصار الحرية، وهناك أيضا ملابسه وأغراضه.. وهناك أيضا مبلغ كبير من المال.. ولكن يبدو أن الدكتور فتحي سرور رئيس مجلس الشعب أقنعه تليفونيا بإطاعة القنصل والابتعاد فورا عن أسدود. الواقع أن جماعة الإخوان المصرية حرمت من الاستمتاع لشهور قادمة بالهجوم على الحكومة المصرية لفشلها في الإفراج عن الطبيبين.

لكني أفكر في حكاية المبلغ الكبير «كانوا كام؟ كنت موَدّي كام للجماعة هناك يا دكتور؟».