أبو علقمة.. بهلول اللغة

TT

كما ذكرت في مقالتي السابقة، أخذ الجمهور في العهد العباسي يجدون في قواعد النحو العربي وحوشي الكلام مصدرا للتندر والفكاهة والسخرية وينظرون للنحويين كحمقى وبهاليل يثيرون في النفس الضحك والشفقة. وشاعت بين الناس أسماء طائفة منهم، فتصدر القائمة الفقيه أبو علقمة. رأينا كيف حاول أن يغازل جارية فثارت عليه ووبخته على غزله وتصورت أنه كان يشتمها.

ووردت عنه حكايات وطرائف كثيرة. ذهب إلى طبيب يشكو مرضه فقال: «إني أكلت من لحوم هذه الجوازل فطسئت طسأة فأصابني وجع بين الوابلة إلى داية العنق، فلم يزل ينمي حتى خالط الخلب وآلمت له الشراسيف. فهل عندك دواء؟».

فقال له الطبيب: «خذ حرقفا وسلقفا وشرقفا ثم اهرقه ورقرقه واغسله بماء مروّث واشربه بماء الماء».

فقال أبو علقمة: ويحك! أعد علي فإني لم أفهم.

فقال له الطبيب: «لعن الله أقلنا إفهاما لصاحبه. فهل فهمت شيئا من كلامك؟».

واحتاج الفقيه إلى خدمات حجام ليحجمه. وبادره بالقول: «لا تعجل حتى أصف لك. ولا تكن كامرئ خالف ما أمر به وفعل غيره. اشدد قصب المحاجم، وأرهف ظبة المشارط، وأسرع الوضع، وعجل النزع. وليكن شرطك وخزا، ومصك نهزا، ولا تردّن أتيا ولا تكرهن أبيا».

فوضع الحجام محاجمه في قفته وقال: «يا قوم هذا رجل قد ثارت به المرة (مزاج السوداوية) ولا يصح أن يخرج دمه في هذا الوقت». قال ذلك وانصرف.

وفي حكاية بهلولية مشابهة، بعث أبو علقمة غلامه إلى غريم خاصمه، وقال للغلام: «خذ من غريمنا هذا كفيلا، ومن الكفيل أمينا، ومن الأمين زعيما، ومن الزعيم غريما». فقال الغلام للغريم: «مولاي هذا كثير الكلام. فهل معك شيء؟» فأرضاه الغريم فخلى سبيله الغلام. وعاد إلى سيده فسأله: يا غلام، ما صنعت بالغريم؟ فقال: سقع! قال: ويلك، ما سقع؟ قال: بقع. قال: ويلك، وما معنى بقع؟ قال: استقلع. قال: ويلك، ما معنى استقلع؟ قال: انقلع! قال: ويلك، ولم طولت علي كل هذا الكلام؟ قال: منك تعلمت!

لا أخال هذه الحكايات حقيقية جملة وتفصيلا، ولكنها مؤشرات على قرف الناس من فقهاء اللغة وتحذلقهم وتزمتهم وتعلقهم بكلام الغابرين وتمنعهم عن مماشاة روح العصر والتبسط باللغة. وكان من معالم تحجرهم استقراء ما يقوله البدو والأعراب. يحاول أهل الريف في معظم المجتمعات أن يتعلموا من أهل الحواضر. بيد أن فقهاءنا دأبوا على عكس ذلك فكانوا يخرجون إلى البادية ليستمعوا ويسجلوا استعمال البدو للغة. وجلسوا في المدينة يتربصون لأي أعرابي أمي زائر ليسألوه ويتعلموا منه. لاحظ بعض الأعراب أن هؤلاء الفقهاء كانوا يستضيفونهم ويهادونهم ويدفعون لهم أجرا عن أي شيء حوشي ينطقون به ويتعلمونه منهم. فأخذوا يفتعلون الكلام ويخترعون الكلمات ويكسرون قواعد النحو ليكسبوا فلسا أو فلسين من هؤلاء القوم، بهاليل اللغة!