مناقشات الجنود القصيرة في أفغانستان

TT

حتى في يوم الذكرى، عندما تتوقف البلاد عن العمل لتكرم وتتذكر أولئك الذين سقطوا من الرجال والنساء من العسكريين ممن شاركوا في حروب الولايات المتحدة السابقة والحالية، تظل القوات الأميركية مجرد فكرة، ولا تصبح، فالقوات التي تكدح في القواعد القاصية لتحارب معارك ضارية، حقيقة واقعة بالنسبة لمواطنيهم إلا عندما يحملون حقائب الظهر العملاقة على ظهورهم في المطارات الأميركية في بداية ونهاية عطلاتهم.

ربما يكون من السهولة بمكان نسيان أن أغلبية الرجال والنساء ممن يحاربون في أفغانستان والعراق قد مضى على تخرجهم من المدارس الثانوية بضع سنوات قلائل. وكمراسل عسكري، أتيحت لي الفرصة لمشاهدتهم على سجيتهم في تلك اللحظات العصيبة بين الملل والبطولة. أثناء انتظار مروحية، ومحاولة قتل الوقت في إحدى القواعد أو السير في طريق، ربما يكون أو لا يكون مفخخا.

في هذه اللحظات يمكن أن يصف البعض ممن يرافق هؤلاء الجنود بالحماقة، وربما الشجاعة أو الافتقار إلى الخبرة أو تحليهم بروح الفكاهة. وقد شاهدت بعضا من تلك اللحظات الأسبوع الماضي عندما كنت على متن آخر مروحية تستعد للاتجاه إلى وادي كورينغال الملتهب شرق أفغانستان، التي كان القادة الأميركيون على بعد أسابيع قليلة من إغلاق القاعدة الموجودة هناك، وإنهاء خمس سنوات دامية من الصراع مع طالبان.

كانت الطائرة قد تعرضت لإصابة من مدفع رشاش، أحدث فيها ثقبا قبل ليلتين وتوقف الجميع لرؤيته قبل الصعود على متن الطائرة الحوتية الضخمة.

كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة مساء، لمع البرق مرات عدة في السماء القاتمة. بعد 15 دقيقة من الطيران حطت المروحية. حينئذ انخرط اثنان من جنود اللواء الرابع التابع للفرقة الرابعة مشاة في جدال حول موقع ولاية كونكتيكت وعما إذا كانت في نيو إنغلاند.

أصر الجندي الأول ببسالة على أن كونكتيكت لا يمكن أن تكون جزءا من نيو إنغلاند لأن جميع سكان الولاية يشجعون فرق نيويورك الرياضية: الغاينتس والجتس والميتس واليانكييز..

وهنا سأله الجندي هل تستطيع أن تخمن أين توجد ولاية كونكتيكت؟ أو بمعنى آخر هل تستطيع أن تحدد الولاية على الخريطة؟

لم يجب الجندي الأول، وكان من الواضح أنه لا يستطيع تحديد مكان ولاية كونكتيكت على الخريطة، لكنه بدلا من ذلك قام بتعداد أسماء الولايات الموجودة ضمن نيو إنغلاند: ماساتشوستس وفيرمونت ونيو هامشاير وماين وجزيرة رودي. عبر جندي ثالث عن اعتقاده أن لونغ أيلاند موجودة ضمن نيو إنغلاند أيضا. لكن الجنديين الأولين، وكلاهما من بوسطن طلبا منه الصمت لأن لونغ أيلاند تقع في نيويورك التي لا ترتبط من قريب أو بعيد بنيو إنغلاند.

كنا لا نزال على الأرض وكان البرق يرسل وميضه، بعد ساعة ونصف الساعة ظهر القمر وعاد ليرسل ضوءه من جديد، ليؤكد على إمكانية إصابة المروحية مرة أخرى. تحولت مناقشات الجغرافيا بين الجنود إلى موضوع آخر: حول ما إذا كانت بروكتون، بولاية ماساتشوستس، أكثر خطورة من وادي كورينغال، حيث قتل ما يزيد عن 40 جنديا أميركيا خلال السنوات الخمس الماضية. أصر أحد جنود نيو إنغلاند على خمسة من أقاربه قتلوا في بروكتون، ومن ثم فإنه متأكد من أنها أكثر خطورة من كورينغال.

كانت المروحية لا تزال رابضة على الأرض، وأمامها وقف ملازمان يتحدثان حول سلبيات وإيجابيات سماح الجيش للجنود باستكمال الدراسات العليا. وفي المؤخرة روى ضباط صف برتبة رقيب كيف كان يبكي أثناء مشاهدته لفيلم «الأسد الملك» عندما كان في السادسة من العمر.

قام جندي آخر بسؤال ضابط صف من أصل روسي يدعى إيغيروف عما إذا كان قد بكى عندما شاهد سلفستر ستالوني وهو يطيح بدولف لاندغرين في الجزء الرابع من فيلم «روكي»، وثار نقاش لمدة خمس دقائق حول الملاكم الأفضل قبل أن يشير إيغيروف إلى أن لاندغرين سويدي وليس روسيا.

طول انتظار الطائرة دفع بعض الجنود من مؤخرة الطائرة إلى الخروج لتدخين لفائف التبغ وتبادل القصص حول العناكب الضخمة والسحالي والقرود الموجودة بالوادي. وقبل العاشرة بقليل عاد الجميع إلى مقاعدهم وربطوا أحزمة المقاعد ودار المحرك وأقلعت الطائرة وفجأة كان الجنود في الجو.

مع توجه الطائرة إلى كورينغال كان القمر يشع نوره الكامل على الجبال والأنهار تفيض بمائها الفضي الخلاب.

هبطت المروحية في قاعدة أخرى على بعد ستة أميال من كورينغال. وقرر الطياران أن الطيران فوق الوادي والسماء صافية يشكل خطورة كبيرة، إذ سيسهل على مقاتلي طالبان استهدافها. خرج الجنود من الطائرة يتعثرون في خطاهم وآذانهم تطن من صوت المحرك وبحثوا عن مكان يخلدون فيه للنوم، ليعاودوا المحاولة من جديد في الليلة التالية.

* غريغ جيف مراسل عسكري لصحيفة «واشنطن بوست» وشارك في تأليف كتاب «النجمة الرابعة: أربع جنرالات والنضال الملحمي لمستقبل الولايات المتحدة».

* خدمة «واشنطن بوست»