بعد العواطف.. لنبدأ التفكير سياسيا

TT

«نستطيع تجاهل الحقائق، لكن ليس بمقدورنا تجاهل عواقب هذا التجاهل»

(آين راند)

لا جديد إذا في أسلوب التعامل الإسرائيلي مع القضايا ذات الطابع الأمني. فباسم الأمن تحلل الجرائم ضد المدنيين العزل، وباسم الأمن تنتهك القوانين والأعراف، وباسم الأمن تدمر العلاقات الدبلوماسية والمبادرات التفاهمية ويحرَج الأصدقاء فيخرَجون!

هذا دأب التطرف الإسرائيلي الذي عرفه العرب، والفلسطينيون بالذات، قبل سنين وعقود. وما جرى لـ«قافلة الحرية» في المياه الدولية محطة على طريق طويل.. وليس حدثا طارئا استوجب إجراءات طارئة.

فمنذ 1948 بدأ المسلسل بمجازر الترويع توصلا إلى التهجير. ومن ثم جاءت إجراءات مصادرة الأراضي تحت شتى المسوغات المفتعلة الجائرة، واستمرت حالات زرع المستوطنات وتغيير الواقع على الأرض من دون أن تكل الآلة الإعلامية الإسرائيلية أو تمل في التكلم عن السلام - المرفوض إسرائيليا – والتباكي عليه.

وحتى خلال السنوات القليلة الماضية شاهدنا وشاهد العالم كيف تصرفت إسرائيل، رغم توصلها لمعاهدات سلام مع دولتين عربيتين تتقاسمان معها معظم حدودها، سواء على صعيد تسريع عملية بناء المستوطنات، أو السعي العتيد لتهويد القدس وإخراج موضوعه من التداول، وهذا مع علمها التام أن موضوع القدس بالتحديد أكبر من الفلسطينيين.. بل أكبر من العرب.

إنه إذا كانت إسرائيل مصرة على تبريره دينيا، موضوع له في الحقيقة بعد ديني خطير يتجاوز العرب ليمس كل مسلم في أقصى أقاصي الأرض.

فكل مسلم، من نيوزيلندا إلى جنوب أفريقيا، ومن تشاد إلى كاليفورنيا، تحتل القدس موقعا مركزيا في إيمانه الديني، بصرف النظر عن رأي بنيامين نتنياهو. ثم إن الإسلام دين نهى عن العصبية القبلية، ولم يرَ للعربي أي فضل على أعجمي إلا بالتقوى.

من هنا، ينبغي القول، إن حكومة اليمين الإسرائيلي عندما تتصرف باللغة الوحيدة التي تجيدها مع كل من يناوئها، تفتح على نفسها أبواب مجابهات أكبر بكثير مما حسبت وتحسب. وهذا ما اتضح خلال الأيام الماضية من موقف تركيا.. أول دولة مسلمة تعترف بإسرائيل، وتقيم معها علاقات دبلوماسية.

ثم إذا كانت هذه الحكومة - وسابقاتها - قد تعمدت تأزيم الوضع الإقليمي وجره إلى مستنقع التطرف والتطرف المضاد ليسهل عليها رفض تقديم التنازلات، فعليها منذ اليوم أن تدرس بعناية أبعاد ما حدث لـ«قافلة السلام»، والانتصار المعنوي الكبير الذي أهدته العدوانية الإسرائيلية لحركة حماس وكل من يدعمها في أراضي الداخل... وأيضا في مختلف أنحاء العالم.

نحن الآن بعد أسبوع من المشاعر العاطفية المشحونة، نقترب شيئا فشيئا من مفصل بدء الكلام في السياسة. والكلام هنا موجه لأكثر من طرف واحد، وليس لإسرائيل وحدها.

إن ما ارتكبته إسرائيل أسوأ من أن يغسله التذاكي والتمسح بما يجيزه القانون الدولي ولا يجيزه، لأن قلة من الدول تعاملت مع القانون الدولي والقرارات الدولية باحتقار يداني الاحتقار الإسرائيلي. غير أن علينا كعرب أولا، وكأناس يرفضون الظلم والعدوان ثانيا، أن نعترف بأن ما يحدث في قطاع غزة ليس مجرد أزمة إنسانية كما تصورها حركة حماس والفئات التي تدعمها، تماما كما أنه ليس مجرد «قضية إرهاب» كما زعمت وتزعم إسرائيل.

في غزة أزمة ذات بعدين: الأول لا شك إنساني نجم عن تهجير مئات الألوف من الفلسطينيين وتكديسهم في مخيمات القطاع المفتقر إلى أدنى مقومات الحياة الكريمة، أما الثاني فسياسي بامتياز؛ لأن التهجير المنظم جاء بناء على سياسة عدوانية تهجيرية استيطانية، والتفاقم الحالي في الوضع المعيشي في غزة جاء في جزء منه بسبب استثمار إسرائيل الأخطاء التي ارتكبتها حماس منذ سيطرت على القطاع.

لقد استغلت إسرائيل عمليات إطلاق الصواريخ - على ما فيها من قلة جدوى -، ومن ثم إقدام ما هو عملي «جهاز سلطة» حماس على خطف المجند الإسرائيلي جلعاد شاليط، لتبرير الحصار الخانق المتطاول.

خلال الأيام والأسابيع المقبلة، يجب أن يأتي دور السياسة الجادة؛ لأن المشاعر العاطفية وحدها تخفت بمرور الوقت، والذرائع المبنية عليها تتداعى بهذا الخفوت.

تخفيف المعاناة الإنسانية واجب، والعمل على تحقيقه في وجه كل الصعاب نبل ما بعده نبل... لكن السياسة واقع لا مفر منه.