نتنياهو يغامر بملته

TT

ما حل بأسطول الحرية فيما سموه بمجزرة الفجر الدامي، بل وما جرى لغزة أخيرا، ورد كله في إطار السياسة الجزئية Micro Politics، فهناك بركان أضخم يدمدم ويهدد تحت السطح، وهو الخطر الذي سيحيق بالشتات اليهودي. نسي أكثرنا، يهودا ومسلمين، ما حذر منه سادة اليهود وأمراؤهم شرقا وغربا عما ستجره إقامة الدولة اليهودية من أخطار على سلامة يهود العالم واستقرارهم وخلاصهم من معاداة السامية. هذا ما حذر منه لوسيان وولف، رئيس مؤسسة المندوبين اليهود في بريطانيا، السلطة الدينية العليا لليهود البريطانيين، ومونتفواري، الوزير اليهودي في حكومة لويد جورج، والحاخام باشي في اسطنبول، وكل قادة المؤسسات اليهودية في العالم تقريبا. رأوا أن وعد بلفور وإقامة إسرائيل سيعرضان يهود العالم إلى محنة.

كتب الكاتب اليهودي البارز آرثر كويسلر، بعد تأسيس إسرائيل مباشرة، فقال إن ما على يهود الشتات هو أن يتمنوا لها الخير والفلاح ويتركوها وشأنها، لها مصيرها ولهم مصيرهم. لم يستمعوا له. وفي حماسهم لهذا التأييد المطلق لإسرائيل، محقة كانت أو مخطئة، أخذوا يربطون كيانهم بها. لحسن الحظ أن شريحة منهم، لا سيما بين الأوساط اليسارية، اتعظت بنصيحة كويسلر، ووقفت مواقف مشرفة في التعاطف مع الفلسطينيين وشجب تصرفات إسرائيل. بيد أن الأكثرية جرفتها التيارات الصهيونية، وهذا هو الخطر المخيف.

ما تخوف منه قادة اليهود حتى الحرب العالمية الثانية هو أن وجود إسرائيل وتأكيد الصهيونية على هوية الشعب اليهودي الواحد سيعزز مقولة اللاساميين في التشكيك في ولاء المواطنين اليهود. إسرائيل والصهيونية غارقة الآن في نشوات النصر. لكن التاريخ لا يبقى واقفا. ففي طيش انتصاراتها نجحت اليوم في تجييش سائر المسلمين، وليس العرب فقط، ضدها. حليفتها تركيا - وقبلها إيران - انقلبت عليها. وضم أسطول الحرية مواطنين من شتى البلدان الإسلامية. ألن يحرج ذلك ويؤثر على أحوال اليهود في هذه البلدان؟ ويشكل المسلمون الآن أقليات كبيرة في الغرب، آخذة في التزايد عددا ونفوذا من يوم ليوم.

حظيت إسرائيل بعطف الرأي العام الغربي حتى السنوات الأخيرة حين تمادت في طيشها وبطشها. تشير المصادر إلى أن الاتجاه أخذ ينقلب ضدها. حتى أميركا تحولت من اعتبار إسرائيل كنزا لها في التسعينات إلى اعتبارها عبئا عليها الآن، كما صرح مئير دغان، رئيس الموساد. ومن السهل جدا أن يأخذ هذا التحول ضد إسرائيل قالب اللاسامية التقليدي. سمعت أصداء من ذلك في أحاديثي مع بسطاء الناس هنا. يرى الكثيرون أن إسرائيل من أسباب إرهاب المتأسلمين ومشكلات الغرب مع المسلمين والعرب. الأحوال الآن ماشية، والغرب في بحبوحة، ومن طبيعة الإنسان أن يغض النظر عن العكننات عند النشوة. لكن ما الذي سيحدث إذا اجتاحتهم أزمة مشابهة لأزمة الثلاثينات التي أوصلت هتلر للحكم؟ لا شك أنهم سيبحثون عن كبش الفداء. وعندئذ يواجه أبناء الشتات هذه الحيرة: هل يستمرون في تأييد إسرائيل ومدها بالمال ويتحدون وطنية جيرانهم وزملائهم الأغيار؟ لا شك أنهم سيترحمون على روح لوسيان وولف وكل من حذرهم.