شكاوى ودعاوى!

TT

لم يعد لبعض الناس مشغلة سوى رفع الشكاوى والدعاوى ضد بعضهم بعضا، رغم بساطة الكثير من أسباب الخلاف، وقد اتسعت هذه الظاهرة على نحو غير مسبوق، فكثرة الشكاوى والدعاوى تعكس حالة من عدم التسامح يعيشها البعض هذه الأيام، على عكس ما كان عليه الحال قبل وقت قصير، حينما كان الناس يرفعون شعار العفو، ويستعينون بعقلائهم على حل منازعاتهم، بعيدا عن إشغال السلطات والمحاكم بالكثير من قضاياهم العادية، ولذا لم يكن في كل مدينة جدة - قبل ظهور المفهوم العصري للمحاماة - أكثر من ثلاثة أو أربعة، يطلق على الواحد منهم مسمى «دعوجي»، يتوكل عن صاحب القضية في متابعة دعواه، ولا يختلف الحال كثيرا في بقية المدن السعودية وغيرها، وكان دخل هؤلاء «الدعوجية» على «قد الحال»، نتيجة قلة القضايا التي يسترزقون منها، فالناس الذين يسعون للصلح بين المتخاصمين كثيرون، ولهم قبولهم، ووجاهتهم، وكلمتهم المسموعة، ولست أدري هل تقلصت أعداد الساعين إلى الإصلاح بين الخصوم، أم أن الناس لم تعد تستجيب للوساطة الخيّرة كما كانوا يفعلون بالأمس القريب، وفي الحالتين فإن المسألة تحتاج إلى البحث عن حلول، إذ إنها مؤشر لوجود خلل في بعض علاقاتنا الاجتماعية، فالكثير من الناس في الماضي، عاشوا وماتوا دون أن تطأ أقدامهم المحاكم، لا على شكل شكاة، ولا مشكو منهم، وكان شعارهم: «أهل السماح عاشوا ملاح».

فالمحاكم وهي ذات مسؤوليات كبرى، وغايات عظمى، نحن في حاجة إليها لقضايانا الأهم والأعظم، وقضاتنا الأفاضل - الذين معدلاتهم من القضايا التي ينظرونها تفوق معدلات غيرهم في الكثير من دول العالم - في حاجة إلى أن يسهم المجتمع في دعمهم، عبر حل الكثير من القضايا البسيطة والعادية خارج المحاكم، ليتفرغوا هم للقضايا التي تتطلب خبراتهم الفقهية والعلمية، ولو تحمّل وجوه المجتمع مسؤولياتهم في هذا المجال لأسهموا إسهاما يحمد لهم فعله.

وما زلت أذكر أحد «الدعوجية» البارزين في الماضي، حينما كان ينهي الكثير من أسباب الخلاف، ويسعى لتغليب مبدأ الصلح قبل اللجوء إلى المحاكم، فيجمع المتخاصمين في مكتبه، ويبذل جهده في التوفيق بينهما، فلا يغادر الكثيرون مجلسه إلا وهم على وفاق، وقد سألته مازحا ذات يوم:

- أيهما أكسب لك: الصلح أم إيصال القضية إلى المحكمة؟

فقال على الفور:

- حينما أتوكل في قضية من القضايا، أحصل على أجري من صاحب الدعوى، وحينما أنهي المسألة بالصلح أحصل على أجري من الله، وثمة فرق بين الأجرين، فما عند الله خير وأبقى.

[email protected]