غربلة هادئة لمياه المواجهة البحرية

TT

لم تنتهِ المواجهة بعد. حصار غزة مستمر. ربما مؤقتا. لكن إسرائيل خسرت المعركة السياسية والإعلامية. يصعب رسم صورة للمستقبل، وإجراء تقييم موضوعي ومنطقي للنتائج. لأن المنطق المتعقل يتردد أو يغيب، عندما تصبح القضايا المعلقة كرة متفجرة في شارع عاطفي ملتهب وغاضب.

مع ذلك، أومن بأن واجب الإعلام الجاد تقديم صورة أمينة للنتائج المتوقعة، كي لا يكون التحليل العاطفي مجرد غربلة للماء. وغربلة الماء لا ينجم عنها سوى الماء. وللعرب سوابق في فلسفة الهزائم، بتحويلها إلى انتصارات، واعتبار الانتصارات التكتيكية انتصارات استراتجية حاسمة.

أبدأ بمطالبة إيران، عبر شاشة حسن حزب الله، بإلغاء مبادرة السلام السعودية! ما هو البديل؟ «عرب إيران» لم يقدموا بديلا. هم أيضا عاجزون عن إلحاق هزيمة عسكرية بإسرائيل. ويتجاهلون حقيقة دولية. كل الحروب والمواجهات لا بد أن تنتهي بتسوية سياسية. وإلا استنزفت المواجهات الشعوب. استهلكت الوقت. ألغت التنمية التي هي، في النهاية، العامل الحاسم في النضال من أجل إنهاء الاحتلال والاستغلال.

الأنظمة والتنظيمات التي تلغي السياسة وتعتنق الدعاية، تنتقل بالعرب والمنطقة من الخطاب السياسي الشعبوي، إلى حالة أستطيع أن أصفها بالغوغائية المستغلة، دعائيا، لعواطف الجماهير البسيطة الغاضبة. الهدف حرمان النظام العربي من ممارسة مهمته ومسؤوليته في حماية الأمن القومي. في المحافظة على الاستقرار. الهدف النهائي توريط هذا النظام وأمته العربية في حرب غير متكافئة، مع الغرب وإسرائيل، فيما يبقى هؤلاء المزايدون والمحرضون في منأى عن المشاركة فيها!

نعم، هناك فراغ عربي في المنطقة ناجم عن النَيْل الدعائي المستمر من النظام العربي، بما فيه نظام عباس الفلسطيني، الأمر الذي يضطره إلى المسايرة والمواكبة أحيانا لعواطف الشارع، بشكل لا يفصح عن الضغط الصامت الذي يمارسه هذا النظام على أميركا وأوروبا، للتوعية بخطر الاستمرار في دعم وإسناد إسرائيل.

أخفق التعريب في لجم إسرائيل. أيضا، أخفقت أسلمة القضية الفلسطينية، بدعم إيراني. المواجهة البحرية الأخيرة نقلت الصراع من التعريب والأسلمة، إلى العولمة، بدخول تركيا ويقظة الضمير العالمي (غير الرسمي) إزاء ما ترتكبه إسرائيل من أخطاء وفظائع. قد تقول لي، قارئي العزيز، إن تركيا دولة مسلمة محكومة بنظام ذي ظلال إسلامية قوية. ولها تاريخ إسلامي طويل. صحيح. لكن تركيا الحديثة ذات ارتباطات دولية، تجعل منها دولة قائمة في صميم استراتيجية العولمة السياسية: عضو في حلف الناتو. مرشحة لدخول الاتحاد الأوروبي. علاقة خاصة مع أميركا تسمح بوجود قواعد عسكرية، وربما نووية. علاقة وثيقة مع إسرائيل عسكريا. مخابراتيا. اقتصاديا.

لا بأس، عند العرب، بالأسلمة والعولمة للقضية الفلسطينية. لكن يحزنني أن أقول إن الدخول التركي اتسم بالتسرع. لماذا تسرعت تركيا؟ لأنها تورطت بالانحياز إلى إيران. وعقدت ما يشبه «الحلف السري» مع تنظيمات الإسلام العربي السياسي والجهادي، من دون أن تلجا، أولا، إلى التنسيق مع العرب الأكثر تعقلا. وخبرة. وتجربة. في كيفية مواجهة إسرائيل.

أردوغان سياسي شعبوي. ماهر. يعرف كيف يُعَبِّئ الجماهير. لكن تجاوزه مصر والسعودية (مائة مليون عربي) هو الذي جعله يتورط، في سماع نصيحة إيران و«عربها» بالدخول، من غير استعداد، في مواجهة تجعل من تركيا (ثاني أقوى دولة في الناتو، عسكريا، بعد ألمانيا) عاجزة عن الرد العسكري على إسرائيل!

عربيا ودينيا، أقول إن التورط التركي مرحب به. تركيا أفضل من إيران المعادية مذهبيا. الشعب التركي صادق في مشاعره. لقد اكتشف الأتراكُ العربَ أخيرا، بعد غربة عن التاريخ استمرت نحو قرن. العرب أيضا اكتشفوا الأتراك. تناسوا استعمارا عثمانيا متخلفا استمر أربعة قرون (1516/1916). تناسوا سلخ لواء اسكندرون. تناسوا العلاقة التركية الخاصة مع إسرائيل. علاقة هددت الأمن القومي العربي، باستخدام الطيران الإسرائيلي الأجواء التركية، خلسة، للإغارة على سورية.

لكن هل تأمل تنظيمات الإسلام السياسي والجهادي، في هدم العلاقة نهائيا بين تركيا وإسرائيل؟ واضح من هوية ووجوه العرب الذين كانوا محمولين على سفن الأسطول السلمي المبحر إلى غزة، أنهم يضمون رموز تنظيمات وأحزاب الإسلام السياسي، من المغرب إلى الخليج، بما في ذلك زعيم الحركة الإسلامية في إسرائيل.

هذه التنظيمات لا تقرأ التاريخ. لا تعرف تفاصيل العلاقة التركية - اليهودية التي وصلت إلى حد شكوك عرب النضال من أجل الحرية، بزعماء «حزب الاتحاد والترقي» التركي الذين حاولوا تتريك العرب، ومحو هويتهم ولغتهم القومية، بأنهم متأسلمون من «يهود الضولمة».

سحب أردوغان السفير التركي من إسرائيل. أوقف المناورات العسكرية المشتركة. يعتزم تخفيض العلاقة الاقتصادية (2.5 مليار دولار سنويا) لكن هل هو قادر على قطع العلاقة نهائيا؟ تاريخيا، آوت الدولة العثمانية منذ كارثة عرب الأندلس (1492) عشرات ألوف اليهود الهاربين من محاكم التفتيش. كسب هؤلاء امتيازات بضمانات أوروبية معادية للعثمانيين.

دولة أتاتورك أنقذت كثيرا من يهود أوروبا من المحرقة النازية. الجالية اليهودية اليوم (عشرون ألفا) مزدهرة اقتصاديا. مشاريع مشتركة إسرائيلية - تركية. عندما تعرضت الجالية لهجمات «القاعدة»، قام أردوغان بزيارتها في مراكزها معزيا. تركيا، حتى عهد قريب، كانت تعتمد على اللوبي اليهودي في توثيق العلاقة التركية مع أميركا.

من هنا، فمن المشكوك فيه أن تقطع العولمة التركية للقضية الفلسطينية العلاقة مع إسرائيل. لكن انهيار العلاقة يحرم سورية من الوساطة التركية لاسترداد الجولان. ومن المبكر التفكير في أن الجيش التركي قد يتدخل أو يردع إسرائيل عن مهاجمة سورية ولبنان. أو... غزة.

تحاول إدارة أوباما إعادة ترميم العلاقة المتردية بين تركيا وإسرائيل. الرئيس الأميركي على اتصال يومي بأردوغان، للتخفيف من حملته الإعلامية الناجحة ضد حكومة نتنياهو (وليس ضد إسرائيل). أوباما هو الذي توصل إلى شبه تسوية. أقنع نتنياهو وإيهود باراك بالإفراج عن جميع المخطوفين، قتلى وأحياء. إسلاميين وأتراكا. في مقابل الضغط علي مجلس الأمن، للحيلولة دون توقيع عقوبة أو إدانة مباشرة لإسرائيل!

بل هناك اتجاه أميركي للاقتراب من حماس. فك الحصار. لكن فرض رقابة بحرية دولية تحت رقابة إسرائيلية في مقابل تحويل هدنة حماس مع إسرائيل إلى اعتراف الإمارة الإخوانية في غزة بالدولة اليهودية، وباتفاقات أوسلو.

من أحزان الأسلمة والعولمة للقضية الفلسطينية أن التسوية التفاوضية بين الفلسطينيين والإسرائيليين ستفرض الاعتراف والتعامل مع «مبدأ الدولتين». أقصد السلطنة العباسية في الضفة. والإماراتية الإخوانية في غزة. وهكذا، فالتعريب أدى إلى النكبة (1948). ثم إلى النكسة (1967)، فيما تقدم تنظيمات الإسلام الجهادي والإسلامي، اليوم، الآيديولوجيا الدينية على الوحدة الوطنية الفلسطينية.