الضحية الخفية للقرصنة الإسرائيلية

TT

إضافة إلى الضحايا التسعة الذين سقطوا بالرصاص الإسرائيلي في الهجوم على «أسطول الحرية»، كانت هناك ضحية عاشرة دفنت في صمت. فالاعتداء على السفينة التركية وقع قبل أربعة أيام من الذكرى الأولى لخطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما في القاهرة الذي حدد فيه الأسس التي يراها لبداية جديدة بين أميركا والمسلمين حول العالم، كما قال يومها، والتي كان من ضمنها التزامه بالعمل لتحقيق السلام في الشرق الأوسط، قاطعا وعدا بأن أميركا «لن تدير ظهرها للتطلعات المشروعة للفلسطينيين في الكرامة وإيجاد الفرص ودولة خاصة بهم».

كان هناك تيار في واشنطن يرى أن خطاب أوباما يشكل منعطفا مهما ومبادرة تاريخية يجب ألا تمر ذكراها الأولى من غير عمل يؤكد للعالمين العربي والإسلامي أن هذه الإدارة الأميركية عازمة على فتح صفحة جديدة وأنها رغم الصعوبات والتحديات تريد تحويل الأقوال إلى أفعال، خصوصا مع بروز مشاعر إحباط في العالم العربي من أن الخطاب لم تتبعه خطوات كبيرة عملية لترجمة ما جاء فيه على أرض الواقع. لهذا ربما أرادت واشنطن القيام بخطوات ملموسة لتحريك عملية السلام والمفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية المتعثرة بحيث تتزامن هذه الخطوات مع ذكرى خطاب أوباما، وهكذا وجهت الدعوة إلى نتنياهو لزيارة واشنطن مطلع الشهر الحالي، كما دعت الرئيس الفلسطيني محمود عباس لزيارة تتم اليوم.

إلا أن قوات الكوماندوز الإسرائيلية هاجمت «أسطول الحرية» عشية زيارة نتنياهو في عملية استفزازية خلطت الكثير من الأوراق، فسارع نتنياهو لإلغاء زيارته إلى واشنطن وعاد من كندا التي كان يزورها إلى إسرائيل، ناسفا بذلك جهود إدارة أوباما لوضع أسس جديدة لتحريك المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، ولاستخدام الزيارة لممارسة ضغوط عليه. ولم «تنقذ» العملية نتنياهو من زيارة واشنطن فحسب بل إنها وضعت العراقيل أمام عودة أبو مازن للمفاوضات المباشرة.

غطت العملية الإسرائيلية على ذكرى خطاب أوباما التي كانت ستشهد في الغالب استعادة لأهم ما ورد فيه وتقييما له ولما تحقق على الأرض، وربما لتذكير الإدارة الأميركية بوعودها والتزاماتها التي أعلنتها «للبحث عن بداية جديدة بين الولايات المتحدة والمسلمين حول العالم». فإسرائيل لا يروقها بالتأكيد أن تسمع أوباما يعلن أن جزءا من مسؤوليته كرئيس للولايات المتحدة هو التصدي للصور النمطية السلبية عن الإسلام أينما ظهرت، وأن يتحدث عن معاناة الفلسطينيين والإهانات اليومية التي يتعرضون لها والناتجة عن الاحتلال، وأن يؤكد رفضه لمشروعية استمرار البناء الاستيطاني الإسرائيلي، داعيا إلى وقفه لأنه ينتهك الاتفاقات السابقة ويقوض الجهود المبذولة لتحقيق السلام.

تناول أوباما في ذلك الخطاب أيضا معاناة غزة بسبب الحصار قائلا إن الأزمة الإنسانية المستمرة في القطاع لا توفر الأمن لإسرائيل، واعتبر أن وضع الفلسطينيين الناجم عن الاحتلال لا يطاق. وشدد على أن السبيل الوحيد الذي يحقق طموحات الطرفين «يكون من خلال دولتين يستطيع فيهما الإسرائيليون والفلسطينيون أن يعيشوا في سلام وأمن»، مؤكدا التزامه الشخصي للوصول إلى هذه النتيجة.

ولعل أكثر ما أزعج إسرائيل هو ربط أوباما لاحقا بين عملية السلام والأمن القومي للولايات المتحدة، وهو ربط يجعل عرقلة إسرائيل لعملية السلام إضرارا بالأمن القومي الأميركي. فهناك حديث متزايد اليوم عن أن إسرائيل باتت تشكل عبئا للولايات المتحدة، وهو ما شهد به رئيس الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية الأسبوع الماضي أمام الكنيست، وما تردد في بعض الكتابات في الغرب إثر العدوان على «أسطول الحرية» وفي ظل تعنت وعنجهية نتنياهو.

ولكي لا تضيع الفرصة ويتحقق لنتنياهو ولمتطرفي إسرائيل ما يريدون، يجب التخاطب مع إدارة أوباما من منطلق وعودها والتزاماتها التي حددتها في ذلك الخطاب. وكبداية، وحتى لا نكتفي ببيانات الشجب والاستنكار للعملية الإسرائيلية، يمكن للعرب عبر لجنة مبادرة السلام العربية وربما بمشاركة تركية التخاطب سريعا مع إدارة أوباما حول كيفية إنهاء الحصار اللاأخلاقي واللاإنساني على فلسطينيي غزة. فبيانات الاستنكار وحدها لن تدفع إسرائيل لإنهاء الحصار، لكن الضغوط والمقترحات العملية يمكن أن تحقق ذلك. وربما يتم بلورة حل من خلال تأكيد أن حدود غزة من الجانب المصري تبقى مسؤولية مصر، أما على الجانب الفلسطيني فيمكن وضع قوات دولية بمشاركة مصرية وأردنية، ويمكن الاستشهاد في ذلك بوجود قوات اليونيفيل على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية. أما في البحر فيمكن تجريد إسرائيل من حجتها بتشكيل قوة بحرية أوروبية بمشاركة أميركية وصينية قبالة ساحل غزة على غرار ما هو موجود قبالة سواحل الصومال لمنع القرصنة، أو في الخليج.

لقد استذكر أوباما في خطابه بالقاهرة ما قاله الرئيس الأميركي الأسبق توماس جيفرسون «إنني أتمنى أن تنمو حكمتنا بقدر ما تنمو قوتنا، وأن تعلمنا هذه الحكمة درسا مفاده أن القوة ستزداد عظمة كلما قل استخدامها». عسى أن يكرر أوباما هذا الدرس أمام إسرائيل التي باتت أسيرة غرور القوة وحماقة متطرفيها.