في شأن الذي جرى للقافلة!

TT

في الظن أن ما جرى من هجمات بربرية إسرائيلية على «قافلة الحرية» التي حاولت كسر الحصار المفروض على قطاع غزة في 31 مايو (أيار) 2010، وأسفر عن مقتل 19 شخصا، منهم ثمانية أتراك وأميركي من أصل تركي، سوف تمر كما مرت من قبل أحداث لا تقل خطورة في سماوات وأراضي وبحار الشرق الأوسط. وقد ضمت هذه القافلة ثماني سفن قبل أن تتعطل اثنتان لأسباب فنية (أليس ذلك من الأمور الطبيعية في الشرق الأوسط أيضا!)، منها ثلاث سفن تركية، وسفينتان من بريطانيا، بالإضافة إلى سفينة مشتركة بين كل من أيرلندا واليونان والجزائر والكويت، تحمل مساعدات إنسانية للقطاع، بالإضافة إلى 750 ناشطا متعاطفا مع أهل غزة. وقد انطلقت السفن التركية الثلاث من مدينة اسطنبول، والتقت مع السفن الأخرى قبالة مدينة ليماسول في جنوب قبرص، قبل أن تتوجه إلى القطاع في 29 مايو (أيار) 2010.

وقد احتلت سفينة «إم في مافي مرمرة» M V Mavi Marmara‏ وتعني «مرمرة الزرقاء» المكانة البارزة في وسائل الإعلام المختلفة؛ لأنها كانت الأكثر تعرضا للهجوم الإسرائيلي، وهي سفينة اشترتها منظمة تركية تسمى بـ«إنساني يارديم فاكفي» (منظمة الغوث الإنساني) المعروفة اختصارا بـ«آي إتش إتش»، وهي منظمة خيرية إسلامية معروفة بتأييدها للقضية الفلسطينية، وتقوم بجمع تبرعات كبيرة لخدمة أهدافها الخيرية. وقد تأسست هذه المنظمة في بداية التسعينات من القرن الماضي، وتوسع نشاطها من مساعدة فقراء اسطنبول إلى تقديم مساعدات لمسلمي البوسنة والهرسك، ووفقا لبعض التقديرات فإن وجود هذه المنظمة أصبح محسوسا في أكثر من مائة دولة. وقد فشلت إسرائيل في إقناع أنقرة بمنع «قافلة الحرية» من المشاركة في محاولة كسر الحصار على القطاع، كما رفضت تركيا اقتراحا إسرائيليا بأن تقوم أنقرة بنقل المساعدات التي تحملها السفن إلى إسرائيل، على أن يتم إدخالها إلى القطاع من خلال منظمات إغاثة دولية والأمم المتحدة، تحت رقابة إسرائيلية. وكان واضحا أن الغرض الأساسي من التحرك هو كسر الحصار على غزة دون انتظار لتصريح أو قبول إسرائيلي، وباختصار تغيير الأمر الواقع الذي طال لسنوات عدة.

ما جرى بعد ذلك تداعياته معروفة، من أول الاحتجاجات والتصريحات النارية، وحتى الوصول إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة والحصول على تصريحات مستنكرة من السكرتير العام للمنظمة الدولية، معها منظمات دولية أخرى تستنكر وترفض وتشجب.

ووسط ذلك كله تبدو الدول العربية في حيرة، رغم أنها مثل غيرها تمارس الشجب والرفض بقوة كبيرة، ولكن الاستنكار كما يحدث عادة يطلب استنكارا آخر؛ لأن جماعة غير قليلة سوف تسأل السؤال المنطقي، وهو: ماذا بعد الإعلانات والبيانات، وهل ينتهي الأمر عند ذلك أم أن في الإمكان أفعالا أخرى؟ وسوف يكون مبطنا في السؤال إما أن تبدأ الدول العربية عملية «نضالية» تجاه إسرائيل، أو أن تشجع عليها وتسمح بحماية من يقومون بها، بحيث تجعل حياة إسرائيل صعبة، أو على الأقل تتحمل ثمنا لعدوانها. البلد الوحيد الذي يجد نفسه مطلوبا منه قائمة طويلة من الأفعال هو مصر التي عليها أن تطرد السفير الإسرائيلي من مصر، وتسحب سفيرها من تل أبيب، وتقطع العلاقات الاقتصادية القائمة، ولكن لا أحد يطرح بعد ذلك ما هي الخطوة القادمة بعد كل هذه الخطوات، والعجب أن كل هؤلاء لا يطرحون أبدا متى تستعيد دول عربية أخرى أراضيها المحتلة؟

المأزق عاشته الدول العربية طوال تاريخها منذ حرب عام 1948 حيث كانت الهدنة، وكانت الحرب، وكان السلام والتسوية، جزءا من مأزق لا يعرف أحد كيفية الخروج منه، فلا أحد يتقدم للسلام ولا أحد يفرض حربا منتصرة بالطبع، وإنما هي سلسلة من المواقف المتتالية قد تكون معركة جوية أو تكون حربا صغيرة أو كبيرة، أو أخيرا اعتداء على سفن في البحر. والمأزق أيضا عاشته وتعيشه إسرائيل التي هناك ما يقطع أنها لن تعيش حياة مستقرة أبدا، ومهما وصل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في إسرائيل، فإنه لن توجد فرصة أبدا للاستمتاع به، وسوف يظل الإسرائيليون يعيشون حالة من الكراهية المستمرة من شعوب الأرض قاطبة. والمثال الذي هو بمثابة المرآة التي يظهر فيها وجه إسرائيل القبيح هو كيف فسدت العلاقات الإسرائيلية التركية حيث مقام تركيا الأطلنطي جعلها قريبة من إسرائيل في سياسات الشرق الأوسط، ومع حلول ما سمي بعملية السلام وجدت تركيا المظلة التي من خلالها تجري أكبر عملية سلام وتحالف بين أنقرة وإسرائيل.

وبشكل من الأشكال فإن العلاقات بين إسرائيل وتركيا لم تكن علاقات عادية، ولم تكن المسألة حجم التبادل التجاري الذي تعدى 2.5 مليار دولار، ولكن الأمر وصل إلى تعاون عسكري واستخباراتي غير مسبوق، ومعه جرت المناورات في البحر والجو في تعاون ليس منتشرا بين دول المنطقة، ومن ذهب إلى مدينة أنطاليا التركية لن يعرف ما إذا كان في مدينة عبرية أم تركية، من كثرة عدد السائحين الإسرائيليين بها. وفي عرف الدول، فإن مثل ذلك يعد علاقات غير عادية يتحدث عنها الإسرائيليون باعتبارها نوعية السلام الذي يريدونه، تماما كما يحدث بين بلجيكا وهولندا، فماذا كانت النتيجة بعد ذلك؟ تركيا لا تستطيع أن تترك تراثها وتاريخها، وحتى علاقاتها الاقتصادية والاستراتيجية مع العالم العربي، ومن ثم لا يمكنها نسيان القضية الفلسطينية، وإسرائيل على الجانب الآخر لا تستطيع تغيير حقيقة قيامها في وسط الشرق الأوسط استنادا إلى العدوان، الذي إذا لم يحدث مع ما تعتبرهم أعداء فإنه يحدث مع الأصدقاء أيضا.

وهكذا يضع المأزق الشرق أوسطي الجميع في قفص لا يستطيعون الخروج منه، أو يضعهم في هوة عميقة كلما حفروا فيها ازدادت عمقا، وكلما تركوها تهاوى عليهم التراب، ويمضي الأمر أجيالا وراء أجيال أخرى، ولم تكن ستة عقود من العنت كافية لكي تخلق دوافع السعي للخروج من المأزق التاريخي. لذا لم تكن «قافلة الحرية» مأساة إنسانية لجماعة من المدنيين أصحاب القلوب الرحيمة، ولكنها كانت التعبير الحي عن جماعة هربت من تسوية الأوضاع التي أدت إلى الحصار منذ البداية، إلى محاولة التخفيف من آثاره، ودولة لم يعد أمامها من تضربه من الأعداء فراحت تضرب أصدقاءها أيضا، وهؤلاء الأخيرون وسط الحيرة لم يجدوا في جعبتهم سوى إضافة سلسلة أخرى من الإدانات والاستنكارات والقرارات الدولية والإقليمية، وبعدها يبقى الأمر صفحات أخرى من التاريخ!