لعب (البوكر)، ولكن من دون نقود

TT

فكرت يوما أن أكتب مذكراتي، غير أن فكرتي تلك وئدت والحمد لله في مهادها، لأنني عندما حكّمت عقلي وجدت أنني (ضارب الجادة الغلط)، فالمذكرات أو اليوميات لا يكتبها إلا إنسان له (باع وذراع) في المجتمع، كأن يكون سياسيا بارعا، أو قائدا فذا، أو داعية مؤثرا، أو عالما مخترعا، أو فنانا هز وجدان الأمة بإبداعاته، أو، أو، أو، أو إلى ما هنالك من أو.

فما الذي عندي حتى أرويه للأجيال القادمة غير قلة الحيلة، ولا أقول: قلة الحيا؟! فحياتي كلها من أولها إلى آخرها ما هي إلا لعب (بوكر) ولكن من دون نقود.

ولكي أضرب لكم مثلا بسيطا عن حياتي، سوف أروي لكم ما صادفته بالأمس القريب لتعرفوا على أي هامش من الحياة أنا أسير.

في الصباح الباكر وما كدت أقول: يا فتّاح يا عليم، حتى ضرب جرس الباب الخارجي، وما إن فتحته حتى وجدت أمامي أحد المعارف الذي شككت في أنه لم يكن قد غسل وجهه بعد، الحقيقة أن الهواجس أخذتني، فقلت في سري: اللهم اجعله خيرا. قدته للصالون وجلس صامتا، حاولت بطريقة غير مباشرة أن استفسر منه عن سبب مجيئه دون أي فائدة، وعندما عيل صبري ما كان مني إلا أن أنهره قائلا: لماذا لا تتكلم؟! أخيرا، أجابني بجملة وحيدة قائلا: أبدا.. إنني مزكوم. واستمر على صمته لمدة نصف ساعة أخرى ثم خرج، ورزعت من ورائه الباب متلفظا بألفاظ لا يمكن أن تروى.

فهل مثل هذا الذي حصل يستحق أن يكتب؟!

وقبل أن أحكي لكم ما حصل لي في الشارع في ذلك اليوم الأغبر نفسه، لا بد أن أفضفض لكم عما يعتمل في صدري من الانفعالات، وأؤكد لكم أنه ليس هناك أثقل وأبيخ ممن يصادفك على قارعة الطريق ويسلم عليك ويحاصرك ويرغمك على الوقوف ليأخذ رأيك في مشكلة أو موضوع يخصه - إن ذلك الشخص هو عندي أثقل من ذلك الذي أتاني في منزلي صباحا وظل صامتا ما لا يقل عن ساعة كاملة مثل (أبو الهول) وخرج دون أن أعلم لماذا هو أتى أصلا؟!

أعود لما تعرضت له في الشارع، فبالأمس استوقفني أحد الأشخاص الذي أعرفه معرفة سطحية وليس بيني وبينه أي علاقة وثيقة، وسحبني من يدي وأجلسني على كرسي متسخ من كراسي الشارع، وإذا به يفتح حقيبة يده ويخرج منها أوراقا ومستندات ويفردها أمامي ويأخذ في قراءتها ببطء شديد، ثم يطلب مني أن أعطيه رأيي فيها.

جاملته على مضض، مدّعيا أن الحق كل الحق معه في هذه القضية التي لم أفهم (كوعها من كرسوعها)، ويا ليته اكتفى وقبِل كلامي كما هو، ولكنه أخذ يسألني عن الحيثيات والبراهين التي بنيت عليها كلامي.

وما صدقت على الله أنه أطلق سراحي بعد كل هذه المعاناة، وتركني أمضي في حال سبيلي منطلقا إلى قهوة اعتدت أن أقضي فيها بعض الوقت أحيانا مع مجموعة من الأصدقاء، سلمت عليهم وقبل أن أجلس نبهني أحدهم قائلا: ما هذه البقع التي على خلف ثوبك؟! فلويت عنقي وسحبت ثوبي، وإذا به ملطخ بمخلّفات العصافير، عرفت أن ذلك كان بسبب جلوسي على ذلك الكرسي المتسخ الذي أرغمني عليه صاحب (المستندات). يا ربي.. يا حبيبي، لماذا حظي دائما هو هكذا؟! حتى مخلفات العصافير لم تتركني بحالي، يعني إلى هذه الدرجة هي مشتاقة.

[email protected]