العربية بلسان غير عربي

TT

مع الفتوحات غصت الدولة العربية بالأعاجم. وكان لهؤلاء أثرهم السلبي على لغة العرب، ولا سيما في مدينة البصرة التي كان يسكن فيها أبو الأسود الدؤلي. سمع ابنته تقول له: «ما أجملُ (بضم اللام لا بفتحها) السماء»، فأجابها قائلا: «نجومها». استنكرت ذلك فقالت: «ما أردت السؤال وإنما التعجب من جمال السماء». أدرك الدؤلي أن اختلاط ابنته بالأعاجم أضاع فصاحتها العربية، فأحس بالخطر المحدق باللغة، فقصد زياد بن أبيه، والي العراق، وقال: «أصلح الله الأمير. إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم وتغيرت ألسنتهم. أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون أو يقيمون به كلامهم؟». فلم يستجِب الوالي لطلبه، ولكنه بعد أيام قليلة جاءه رجل بدعوى وقال: «تُوفي أبانا وترك بنون». فما إن سمع ذلك حتى استدعى أبا الأسود الدؤلي وقال له: «ضع للناس الذي نهيتك أن تضع لهم».

فانكب الدؤلي على وضع أول قواعد اللغة العربية، وكان أول باب من ذلك أن تذكّر ابنته فوضع باب التعجب، كما يقول ابنه، وتلا ذلك بالفاعل والمفعول به والمضاف وحروف الجر وأدوات الجزم. وكما نعلم، تابع ذلك أحد الأعاجم، سيبويه، فأكمل عمله.

ولكن المشكلة لم تُحَلّ، بل زادت عقدتها وزادتنا إشكالا على إشكال. فالقواعد التي وضعوها أصبحت تحتاج إلى عالم بذكاء أينشتاين ليحسن استعمالها. لا هي يسّرت على العربي حسن الكلام ولا مكنت الأعجمي من العربية.

ذهب الجاحظ لزيارة صديق له، فخرجت عليه جاريته السندية فقال لها: «قولي لسيدك، الجاحظ بالباب». فقالت: «أقول الجاحد بالباب؟» قال لها: «بل قولي له الحدقي بالباب». فقالت: «أقول الحلقي بالباب؟»، فيئس الجاحظ من أمرها وانصرف.

لم تعد اللغة الوسيلة المتيسرة للتفاهم. وشاعت في بطون الأدب وعلى الخصوص في المسرح الحديث شتى التقليعات والنكات المترتبة على انغلاق المعنى ومسخ الكلمات، وعجز أبناء الأقليات من كرد وترك وفرس وهنود عن استعمال اللغة العربية بوجه لا يثير الضحك والسخرية. وهنا ونحن في هذا الصدد أتذكّر ما قاله معلمنا الجاحظ أيضا بحق كيسان، كاتب أبي عبيدة. قال: «كان يكتب غير ما يسمع، ويقول غير ما يكتب، ويستملي غير ما يقرأ، ويملي غير ما يستملي!».

قرأت ذلك فتوقفت لأتأمل وأسأل نفسي: «كم كيسانا يا ترى قد ظهروا بيننا، وخدموا ككتاب لصدام حسين وسواه ممن أوجعوا رؤوسنا بكلامهم المطلسم والمعجم الذي يحتاج إلى ترجمان يفسر لنا ويهون علينا وييسر من أمرنا؟».

ولم يعد لي غير أن أتذكر ما قاله طه حسين. قال إن كل الشعوب تقرأ لتتعلم ولكننا نتعلم لنستطيع القراءة.

ولما أفرغ بعد من هذا الكلام أو أنتهِ إلى مقاصده. فصبرا علَيّ صبرا!