تركيا سحبت من إيران ورقة غزة

TT

المفارقة المؤلمة أن الدول الثلاث التي تريد السيطرة وفرض نفوذها على الدول العربية، وتعطي دروسا في كيفية التحرير والدفاع، تحتل كلها أراضي دول أخرى. إسرائيل تحتل الضفة الغربية وقطاع غزة، حتى لا نقول كل فلسطين، إيران تحتل جزر دولة الإمارات العربية المتحدة، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، وتركيا تحتل لواء الإسكندرون الذي اقتطعته من سورية وتحتل شمال جزيرة قبرص. كل هذا دون أن نتحدث عن معاملة هذه الدول الثلاث للأقليات لديها، خصوصا الأكراد في تركيا وإيران.

على كل، ليست العلاقات التركية - الإسرائيلية ضحية الغزو البحري السلمي، بل ضحيته المصالحة بين حماس وفتح، ذلك أن حماس ظنت أن الإدانة الدولية لإسرائيل، ترفع العزلة عنها، وتعطيها شرعية. قبل أشهر لمحت حماس إلى استعدادها للمصالحة مع فتح، وبعد حادثة «مرمرة» رفضت استقبال وفد من فتح. والذي يقرأ تحقيق صحيفة «الأوبزرفر» يوم الأحد الماضي حيث يقول الصحافي في نهايته: «إن حماس انتصرت على الحصار»، يشعر بأن «حماس» مهتمة بإنعاش السوق السوداء في غزة لما تدره الأنفاق عليها من أموال تفرضها كضرائب على أصحاب الأنفاق ووارداتهم، ولا يهمها مستقبل غزة أو الغزاويين كجزء من وطن أو كمواطنين يحق لهم العلم والتقدم والازدهار.

أيضا عادت القضية الفلسطينية وسيلة تنافس بين دول شرق أوسطية غير عربية، تريد السيطرة على المنطقة، وتريد أيضا تعزيز وضع أنظمتها داخليا. بقصة الأسطول البحري، خطفت تركيا الإعجاب بتصرفها الأخلاقي. داخليا هذا يساعد رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان الذي يريد إجراء استفتاء حول الإصلاح الدستوري في سبتمبر (أيلول) بحيث لا يحق للقضاء حظر أي حزب، وسيواجه انتخابات العام المقبل. لكن على الصعيد الدولي، فإن هذه الأخلاقية تحمِّل تركيا مسؤولية جديدة، ليس فقط بالتنديد بالقرصنة الإسرائيلية، بل بأن تتصرف بشكل بناء مع حماس والفلسطينيين.

قد تكون تركيا راغبة في دفع حماس وفتح إلى المصالحة، وبهذا تظهر أهميتها بنظر الولايات المتحدة، لكن من جهة أخرى فإن سورية وإيران ستظلان تشدان حماس بعيدا عن المصالحة. وقد تكون إيران أكثر من سورية راغبة في استمرار الصراع بين حماس وفتح. لأن هذه وسيلة إيران لفرض وجودها في المنطقة، وهو الأمر الذي قد تستعمله بين أوراق المساومة في مفاوضاتها مع الولايات المتحدة والدول العربية. حماس ضرورية لها، لأن سورية حسمت أن حزب الله بيدها، وقد طلبت من كل المسؤولين اللبنانيين بدءا من رئيس الجمهورية ميشال سليمان، مرورا برئيس الوزراء سعد الحريري ووصولا إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، دون أن تنسى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي العائد إليها وليد جنبلاط، بعدم مناقشة سلاح حزب الله على طاولة الحوار، لأنه ورقة تحتاجها في هذه المرحلة. وفيما ترى سورية وإيران موقف تركيا القوي تجاه إسرائيل أمرا إيجابيا، إلا أن أيا من الدولتين لا تريد زيادة النفوذ التركي على حماس، لذلك ستعملان بالإبقاء على الشرخ في العلاقات بين حماس وفتح.

إن حادثة «أسطول الحرية» نسفت سعي إيران الحثيث للادعاء بأنها المدافع الأول عن القضية الفلسطينية، إذ إن التحدي جاءها من تركيا، القوة الإقليمية الأخرى البارزة في المنطقة. وبينما في حرب 2006 لم يوجه العالم إدانة إلى إسرائيل، رغم طول الحرب وتدميرها لبنان ودعم إيران لحزب الله بطل تلك الحرب، فإنه بعد حادثة «مرمرة»، لم تبق دولة لم تدن إسرائيل. وبهذا، ولفترة حملت تركيا عباءة المدافع الأول عن الفلسطينيين، بقصد أو غير قصد، إنما هذا أقلق إيران ودفع بأمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، إلى محاولة استعادة اللحظة، وإملائه ما يجب على العالم «المقاوم» مواصلة عمله، وكأنه يقول لتركيا، شكرا، دعي هذه المساحة لنا.

ورغم أن دور تركيا في الأسطول كان واضحا وخدمها، إلا أنه تبين أن ردة فعلها الغاضبة لاحقا، ليست بسبب استمرار الحصار، بل لأنه جرى نوع من الاتفاق بين إسرائيل وتركيا بأن يجري تفتيش السفن قبل توجهها إلى غزة، وقد أخلَّت إسرائيل بهذا الاتفاق وسقط تسعة قتلى أتراك.

يوم الأحد الماضي، دخلت إيران على الخط بقوة، خصوصا بعدما اقترب موعد اجتماع مجلس الأمن لإصدار قرار دولي بحصار يشمل الحرس الثوري الإيراني، وقال ممثل آية الله علي خامنئي المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، علي شيرازي، إن الحرس الثوري على استعداد لمرافقة سفن المساعدات المتوجهة إلى غزة. إن وصول البحرية الإيرانية إلى المتوسط سيكون سابقة، وقد تواجهه بسهولة البحرية الإسرائيلية. وإن هذا الإعلان، رغم استبعاد حدوثه هو محاولة من إيران لاستعادة وضع يدها وحدها على القضية الفلسطينية.

من جهتها، يهم تركيا أن تبقى الأوضاع عند هذا المستوى، فهي كسبت أخلاقيا، وارتفعت مصداقيتها في العالم الإسلامي لوضعها مسافة بينها وبين حليفتها منذ عام 1979 إسرائيل. لكن إذا نفذت إيران تهديداتها، ونشرت أسطولها، وتدهور الوضع، أو إذا دفعت حماس وحزب الله إلى القيام بعمليات ما، فسيعود التركيز على الدور الإيراني، وهذا قد ينسف الموقف التركي.

إن هذه المنافسة حول غزة، تكشف أن الدولتين، تركيا وإيران، تستغلان الوضع من أجل أهدافهما الخاصة. تركيا تريد الاعتراف بأنها القوة المسيطرة في الشرق الأوسط، وإيران تعرف ذلك، وتعرف أن لتركيا امتيازات جيو - سياسية، لتكون اللاعب الأول. ولهذا قد تجد أنه لا بد من قلب الأمور على أعقابها كي لا تسمع تركيا تقول لها: كش ملك. وتجدر الملاحظة إلى أن كل ما قدمته تركيا للـ«أونروا» لمساعدة غزة العام الماضي بلغ 1.08 مليون دولار، وتعهدت هذه السنة بدفع 500 ألف دولار!

الثلاثاء قبل الماضي، قال أردوغان: «إن إسرائيل تخاطر بخسارة أقرب حلفائها في الشرق الأوسط إذا لم تغير من عقليتها». لم يصل إلى حد التهديد بقطع العلاقات معها كليا، هو يعرف أن إسرائيل دولة لا تتحمل العزلة، كانت تركيا وإسرائيل حليفتين طبيعيتين تواجهان عدوا واحدا هو الاتحاد السوفياتي، وكانت الولايات المتحدة الغِراء الذي يمسك هذا التحالف معا. حاليا لم تعد تركيا عرضة وبحاجة لمن يرد السوفيات عنها، ثم إنها تعيد اكتشاف جذورها العثمانية من الشرق الأوسط إلى آسيا الوسطى، وتستعمل الإسلام لنشر النفوذ التركي في العالم الإسلامي. لكنها في الوقت نفسه تستمد قوة نفوذها؛ لأنها ترتبط بعلاقات مع إسرائيل والدول الإسلامية في آن واحد. لهذا من المستبعد أن تقطع علاقاتها مع إسرائيل.

من ناحيتها، فإن الولايات المتحدة تريد الاحتفاظ بموطئ قدم استراتيجي في البحر المتوسط. وتحاول جاهدة الانسحاب عسكريا من العراق، والتوصل إلى تفاهم مع إيران. ولأن تركيا لا يعيقها أو يحرجها التنافس العربي - الفارسي أو العربي - الإسرائيلي فإنها تستطيع أن تكون أكثر فائدة لأميركا في المنطقة من إسرائيل.

واشنطن ستحاول التوسط بهدوء بين أنقرة وتل أبيب، لكنها إذا اضطرت ستقف مع أنقرة، خصوصا أن بعض العداء مع إسرائيل قد يساعد واشنطن على استعادة بعض مصداقية لها في المنطقة. إسرائيل وتركيا ستحتفظان بعلاقاتهما، لكن إسرائيل لم تعد قادرة على الاعتماد على تركيا كحليف إقليمي، وهذا قد يضر سورية.