أبعاد الدور التركي الجديد في الشرق الأوسط وحدوده

TT

لم تتعمد الحكومة التركية تحدي إسرائيل على سواحل غزة، ولكنها لم تفعل شيئا للحؤول دونه. بل اتخذت منه حجة لتفجير خلاف متنام، منذ مدة، معها، وسبيلا إلى دخول قلوب الجماهير العربية والإسلامية من الباب العريض، وارتفع العلم «العثماني» في مظاهرات المدن العربية، بعد غياب دام قرنا تقريبا.

ولا شك في أن انضمام تركيا إلى الفريق الشرق أوسطي الرافض للسياسة الإسرائيلية، له وزنه، ويعتبر كسبا مهما للقضية الفلسطينية ودعما للحقوق العربية المغتصبة من قبل إسرائيل. ولكن هذا التحول السياسي المهم في موازين القوى المشرقية يطرح أكثر من سؤال عن أسبابه وأبعاده وحدوده.

ينسب بعض المراقبين هذا التحول إلى الاستراتيجية التركية التي وضعها الحزب الحاكم في تركيا والهادفة إلى توسيع الدور أو الحضور التركي في المناطق الكبرى المجاورة لها، الإسلامية والعربية والقوقازية والآسيوية، متكلة على الروابط الدينية والثقافية والاقتصادية والتاريخية التي تجمعها بشعوب تلك المناطق، دون أن يعني ذلك خروجها من حلف الأطلسي ومن تحالفها مع الولايات المتحدة أو تخليها عن طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولا عن التعاون العسكري مع إسرائيل. وقبل أن يقع ما وقع في غزة، كانت تركيا قد قطعت شوطا كبيرا في تنفيذ هذه السياسة الانفتاحية، بما في ذلك اصطدامها بإسرائيل «على الخفيف». أما وقد تفجر خلافها دبلوماسيا وعسكريا مع الدولة العبرية، فإن أسئلة جديدة باتت مطروحة: إلى أي مدى ستمضي تركيا في «معركتها» ضد إسرائيل؟ وهل سيؤثر ذلك على علاقاتها بالولايات المتحدة الحاضنة لها؟ وإلى أي حد ستذهب تركيا في الدفاع عن غزة، وخدمة القضية الفلسطينية؟ وهل سينشأ حلف تركي - عربي - إيراني معاد لإسرائيل أو ضاغط أو مقاوم لها؟ أم أن تركيا دخلت ساحة النزاع العربي - الإسرائيلي كمنافسة لإيران على الدور الإسلامي في المنطقة العربية؟

قبل العدوان الإسرائيلي على السفن الإنسانية في مياه غزة، كانت تركيا تقوم علنا بالوساطة بين سورية وإسرائيل. ولقد أصبح هذا الدور صعبا بعد تفجر الخلاف بين أنقره وتل أبيب. ولكن المراقبين شبه مجمعين على أن تركيا لن تذهب في «معاداة» إسرائيل - وبالتالي الولايات المتحدة - إلى الحد الذي بلغته إيران. أو إنها ستتحول إلى دولة داعمة لفصائل المقاومة الفلسطينية والإسلامية، التي تعتبرها واشنطن والدول الأوروبية «جماعات إرهابية». اللهم إلا إذا تخلت تركيا نهائيا عن تحالفها مع الولايات المتحدة ورغبتها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وهذا ما يستبعده المطلعون. ولكن، هل تستطيع حكومة أردوغان، داخليا، أن تصل بعلاقاتها بالغرب إلى هذه الدرجة من الجفاء أو العداء؟

أمام هذه الأبعاد والحدود، يطرح السؤال حول طبيعة الدور التركي الجديد في المنطقة وفي النزاع العربي - الإسرائيلي وقضية فلسطين بالذات؟

يرى البعض في هذا الدخول التركي على ساحة النزاع العربي الإسرائيلي، منافسة لإيران، ترحب بها الدول العربية، بل والدول الغربية أيضا. ويرى آخرون أن تركيا قادرة على دفع عملية السلام في المنطقة بعد الشعبية والصدقية التي اكتسبتها في قلوب الجماهير الغربية والفلسطينية والإسلامية، ابتداء بمصالحة فتح وحماس. كما يرى آخرون أن تركيا تسعى لا إلى منافسة إيران بل إلى منافسة إسرائيل أيضا كصديقة وحليفة للغرب في هذه المنطقة من العالم.

إن الأيام أو الأشهر القادمة هي التي ستكشف عن الهدف - أو الأهداف - التي ترمي إليها تركيا، من وراء هذا التحول الكبير في سياستها الخارجية والشرق أوسطية. والأمر لا يتعلق فقط بالاستراتيجية التي وضعتها، بل أيضا بموقف الولايات المتحدة وإسرائيل والدول الكبرى، بل الجيش والقوى العلمانية داخل تركيا. ولكن هذا لا يحول دون ترحيب الدول والشعوب العربية بالسياسة التركية الجديدة التي تشكل دعما مهما للقضية الفلسطينية وللحقوق العربية. وعسى أن لا تضيع هذه الفرصة التاريخية الجديدة في نزاعاتنا الفلسطينية - الفلسطينية، والعربية - العربية، والإسلامية - الإسلامية.