المسلمون في أوروبا وإمكانيات الخروج من المواجهة

TT

في الوقت الذي كان فيه المسلمون الفرنسيون يجتمعون في إحدى ضواحي باريس للنظر في ظواهر العداء التي يواجهونها من جانب المجتمع الفرنسي والدولة الفرنسية، صدرت نتائج استطلاع أجرته إحدى مؤسسات الرأي العام في ألمانيا، أظهرت أن كثرة من الألمان تربط بين الإسلام والعنف. أما في فاس المغربية، فقد اجتمعت إحدى لجان «الاتحاد من أجل المتوسط»، وهو الهيكل الجديد الذي دعا إليه الرئيس الفرنسي ساركوزي لتجنب إدخال تركيا في الاتحاد الأوروبي! وكانت دول أوروبية عديدة في طليعتها بلجيكا وفرنسا قد أصدرت قوانين لمنع النقاب، وقضى استفتاء في سويسرا كما هو معروف بمنع بناء مآذن المساجد، ويوشك حزب يميني هولندي أن يكسب الانتخابات هناك بسبب بند وحيد في برنامجه يقضي بمنع الهجرة إلى ذاك البلد، والتضييق على الجاليات فيه، والمفهوم أنها الجاليات العربية والإسلامية بالدرجة الأولى. وهكذا ما عاد هناك أحد من الباحثين المحترمين يستطيع إنكار العداء السافر للمسلمين، بل وللإسلام. فما هي أسباب هذه الظاهرة، وكيف يمكن الخروج منها؟

يذكر باحثون فرنسيون وألمان وبريطانيون أن العداء للمسلمين وليس للإسلام يعود لسببين رئيسيين: ارتباط هؤلاء في أذهان الأوروبيين بالعنف، وارتباطهم في الأذهان بالتقاليد والممارسات الخاصة التي ينفر منها الأوروبيون مثل اللباس الخاص للنساء، واللحى للرجال، والعيش بأساليب خاصة. وبالفعل فإن الاستطلاع الألماني السالف الذكر أظهر أن كثرة بألمانيا تعتبر الإسلام دينا عنيفا أو يشجع على العنف، كما أنها تربطه بالتمييز ضد المرأة، وشاهدهم على ذلك تعذر الزوجات، وممارسات الطلاق، وعدم قبول تعليم المرأة، وإرغامها على الزواج في سن الصغر! وقد لفت نظر دارسي الاستطلاع أن «الشواهد» التي يذكرها المشاركون في الاستطلاع، إما أنها غير صحيحة، أو أنها تنتمي إلى غير ألمانيا، مثل القول إن الدليل على عنف المسلمين استمرار وجود تنظيم القاعدة في أفغانستان وباكستان وبعض البلدان الأفريقية.

أما السبب الثاني في درجة اهتمام الأوروبيين وهو غطاء الرأس لدى المرأة وأخيرا النقاب - وهو المتصل بالأسلوب الخاص للمسلمين في العيش - فإن النقاش فيه يتسم أيضا ببعض العبثية. ففي فرنسا وبلجيكا حيث صدرت قوانين تمنع وتحرم، ليس هناك غير بضع مئات من الفتيات اللواتي يصررن على وضع النقاب باسم الدين، وأسر هؤلاء لا تفرض عليهن ذلك، بل والأكثر أنها تعارضه. لكن الرئيس ساركوزي وبعض الألمان، مصرون على أن ذلك دليل على التمييز ضد المرأة من جانب الرجال، أو من جانب الدين ذاته.

والمسائل الأخرى المتعلقة بالمرأة ليست أكثر معقولية. فتعدد الزوجات صار ظاهرة نادرة بكل المقاييس، وهي لا تكاد توجد بين المسلمين المقيمين بأوروبا. أما الطلاق، فأقل بين المسلمين الأوروبيين بنسبة 45% منه بين الأوروبيين، والموقف منه متناقض لأن من الأوروبيين من يذهب إلى أن المسلمين تمييزيون لأنهم لا يعطون النساء حق تطليق أنفسهن عندما يردن! ويمكن المضي قدما وإلى ما لا نهاية في ذكر الأسباب، وفي نقضها في الوقت نفسه. بل ويمكن ذكر السبب الثالث - إذا صح التعبير - وهو الأقل معقولية مثل قلة معقولية الاستدلال عليه: أن المسلمين يكرهون الغرب وناسه، وهذا هو السبب الذي من أجله يصرون على العيش في أوروبا بأساليبهم الخاصة.

والمعروف أن هذا السبب بالذات ذكرته إدارة الرئيس بوش وركزت عليه على مدى أربع سنوات بعد هجوم «القاعدة» على الولايات المتحدة، وتحت عنوان: لماذا يكرهوننا؟ وكانوا يجيبون بأن المتطرفين المسلمين إنما يكرهون الغربيين بسبب نجاحهم (= برنارد لويس)، وبسبب حرياتهم وحبهم للحياة ومباهج العيش!

وعلى أي حال، فهذا هو الواقع. أي أن هناك «ظاهرة» متصاعدة في أوروبا بالذات أكثر بكثير منها في الولايات المتحدة، مؤداها الخوف من الإسلام، والنفور من ظهور المسلمين بمظهر طاغ في الشارع الأوروبي، ومن بين المسلمين هناك العرب على الخصوص، ثم انضم إليهم الأتراك في السنوات الأخيرة. ومع أنه لا يجوز التقليل من شأن التعليلات التي يذكرها الأوروبيون (العنف، وأساليب الحياة الخاصة) وسواء أكانت مقنعة من الناحية الإحصائية أم لا؛ فالذي لا ينبغي تجاهله أن العرب والمسلمين تتزايد أعدادهم في المجتمعات الأوروبية، وصاروا ينافسون السكان الأصليين في التعليم والعمل، فضلا على أن كثرة منهم ما تزال مرتبطة ببلدانها الأصلية، وترسل قسما كبيرا من دخلها إلى تلك البلدان. وإذا قيل إن الأفارقة (وبينهم غير المسلمين) يهاجرون بكثرة أيضا، فالإجابة أن هؤلاء في الأكثر لم يحصلوا على جنسيات البلدان التي يقصدونها، في حين صار معظم المهاجرين من العرب والمسلمين من حملة الجنسية لإحدى الدول الأوروبية، وبخاصة الأتراك بألمانيا، والمغاربة بفرنسا.. الخ. وهذه المنافسة مع انقضاء حقبة النمو والرخاء منذ الثمانينات من القرن الماضي، أمر لا يمكن إنكار تأثيراته.

ويضاف لذلك أن الأوروبيين صاروا أكثر اهتماما بالخصوصية في الأصول الإثنية والقومية واللغوية والدينية. وبهذه المعاني فإن المسلمين مختلفون بالفعل، ويتمايزون تلقائيا في المظهر ومن جانب النساء أكثر من الرجال. وما نزال نميز بين أميركا وأوروبا في تصاعد الاهتمام بالدين، فنذهب إلى أن أوروبا ما شهدت عودة للدين تشبه ولو من بعيد العودة في الولايات المتحدة. وهذا صحيح لكن ليس على إطلاقه. إذ هناك اهتمام متجدد بالدين المسيحي ومن جانب الكاثوليك والبروتستانت. وهو يتخذ تارة سمة التدين الشعائري، وهؤلاء ليسوا من المتعصبين في العادة - وطورا سمة تدين الهوية، أو اعتبار الدين جزءا من الهوية الوطنية أو الأوروبية. وهؤلاء في العادة أعضاء في أحزاب يمينية، صار لها وجود بارز في البرلمانات المحلية والاتحادية والأوروبية. بل إن الأحزاب الوطنية الكبرى المحافظة أو الاشتراكية، اضطرت لمراعاة هذه الشريحة من الناخبين، فظهرت لها مواقف غير ودودة من المهاجرين المسلمين وغير المسلمين. وقد اشتهر ذلك عن بعض السياسيين في الدول الاسكندنافية. بيد أن أشهر المعروفين من هذه الفئة الرئيس الفرنسي ساركوزي الذي اشتهر بموقفه المتحفظ بل والمندفع منذ كان وزيرا للداخلية.

وهو يحاول حتى اليوم الاحتفاظ بـ«السمعة الحسنة» في هذا المجال، عن طريق الدفع باقتراحات ومشاريع القوانين التي تضيق على مواطنيه المغاربة المسلمين، إلى البرلمان دونما تردد أو اهتمام بتأثير ذلك على «حجم» ناخبيه، لأنه - كما يقول - لا يريد أن يتفوق عليه اليمينيون المتطرفون في الحرص على «الهوية الفرنسية» العتيقة والعريقة والخالدة. لكن: هل الدين جزء من هذه الهوية، بحيث لا يمكن قبول الاختلاف في الدين والأعراف من جانب بعض مواطنيه من أبناء الجيل الثالث؛ في حين يعتبر هو من أبناء الجيل الثاني في اكتساب الجنسية الفرنسية؟ هنا يلجأ ساركوزي وغيره إلى كلام طويل في مسألة الهوية الثقافية لفرنسا ولأوروبا. فالهوية لا تعني الدين بقدر ما تعني اللغة واللسان والعادات والأعراف، أو بكلمة واحدة: الثقافة، هذه الكلمة السحرية، التي صنع من خلال اليمين الأعاجيب على المستوى العالمي في العقود الثلاثة الأخيرة.

ولست أريد هنا بالفعل التقليل من مسؤولية المسلمين فيما يحدث لهم في أوروبا بالأمس واليوم. لكن المسؤولية ضئيلة بالفعل فالإحصائيات تقول إن نحو الثمانين في المائة من المسلمين بأوروبا والولايات المتحدة، لا يحرصون على ممارسة الشعائر الدينية بانتظام، كما أنهم لا يتمايزون في الملابس. ونسبة الـ20% نسبة لا يستهان بها، لكن لا يمكن اتخاذها دليلا على سيطرة الأصولية على المسلمين بأوروبا. وهكذا فإن أوروبا هي التي تغيرت كثيرا، وليس المسلمون. ولست أعلم كم تستمر هذه الموجة المشدوهة بالهوية وتوحدها وشروطها ومتطلباتها. لكن الذي أعرفه، ويقول به الخبراء، أنه ستكون لهذه الموجة، تأثيرات قوية على مستقبل علائق العرب والأتراك - على وجه الخصوص - بأوروبا. فمن جهة هناك الترابط الكبير والمتزايد في الاقتصاد والتواصل والانتشار اللغوي والديموغرافي، وهو بين العرب والأتراك من جهة، والأوروبيين من جهة ثانية؛ بين الأكثر والأكبر في العالم. وهناك في الأفق الآخر الميل الأوروبي والعربي المتزايد إلى الخصوصية ومسائل الهوية، ومن بينها الدين، وتعريف الذات والمجتمع على أساس منه. فهل تتلاءم على نحو ما العوامل المادية والثقافية، أم أننا سنشهد المزيد من الافتراقات والنزاعات؟!