«ساهر»

TT

لا يتكون البحر الغزير إلا من القطرات الصغيرة، ولا يشمخ الجبل الكبير إلا من الحصى والحجارة. ولا ينهض المجتمع ويقوى إلا بعد أن يجيد إدارة تفاصيله الصغيرة.

مناسبة هذه المقدمة «الخطابية» هي أنه قبل بضعة أسابيع وقعت لي حادثة سيارة، لكن الله سلم، بعدما عطبت السيارة قليلا. كان هذا في أحد شوارع الرياض، وحسب تقرير سلطات مرور السير فإن الخطأ كان على صاحب الشاحنة الكبيرة التي أسقطت إطارها الاحتياطي الكبير، أو «الكفر» كما يسميه السعوديون، و«التاير» كما يسميه بقية أهل الخليج، أو الدولاب حسب تسمية أهل الشام، أو العجلة حسب تسمية أهل النيل.. وهذا التنوع العربي في تسمية جزء أساسي من السيارة، لك أن تفهمه بأنه دلالة تنوع لدى الأمة العربية أو أنه دلالة تشتت، ولكن كيف تجد الأمة السبيل للخروج من هذه الفرقة والخلاص من هذا التناحر.

إن الأمة العربية.. عفوا، رجعت للكلام الكبير ونسيت قصة حادثة السيارة!

بعد هذه الحادثة صرت أركز أكثر في سلوكيات الناس في الشوارع وقيادة السيارات، وأنا منهم، فرأيت أنها أبعد ما تكون عن العقلانية والصبر والهدوء.. «حرب شوارع» فعلا، فيها الشجارات وإزهاق الأرواح والإصابات البالغة، وتلف الممتلكات.

كم من بيت في السعودية فقد عزيزا له بسبب حادث سيارة، أو أصيب عزيز له بإعاقة؟

أغلب الناس لا يلتزمون من تلقاء أنفسهم بقواعد السلامة والمرور. وإذا أسندت تطبيق هذه القواعد والغرامات إلى العنصر البشري، فمن المؤكد دخول عنصر الانحياز و«الواسطة».. فهذا شيء طبيعي في مجتمعاتنا العربية.

استعانت السلطات في السعودية بنظام كاميرات مراقبة ذكية، تسجل المخالفات المرورية، ومثل كل جديد حورب هذا النظام أو أبدى البعض تذمره منه بحجج مختلفة.

تحدثت مع العقيد عبد الرحمن المقبل، وهو أحد الساهرين على «ساهر»، فأخبرني بأن «ساهر»، وهو الاسم الذي أطلقته وزارة الداخلية على نظام المراقبة بالكاميرات، ماض ولن يتوقف. وقال: «كيف نوقفه وقد لاحظنا أثره الإيجابي بشكل سريع، لقد تغيرت سلوكيات السائقين بنسبة كبيرة. نحن نريد من هذا النظام رفع كفاءة الحركة المرورية ومراعاة قواعد السلامة، إضافة إلى هدف كبير يتغافل عنه الكثيرون، وهو الهدف الأمني، لقد رصدنا في الرياض خلال ستة أسابيع من تطبيق «ساهر» نحو 271 سيارة مسروقة».

واطلعت على مستندات تتحدث عن انخفاض نسب الوفيات جراء حوادث المرور في الرياض، وهي من أعلى النسب في العالم، وأرقام تتحدث عن انخفاض حوادث الدهس والانقلاب والتصادم خلال شهر واحد من هذا العام، بعد تطبيق نظام ساهر من 1091 حادثة إلى 816. وأن الحوادث المرورية انخفضت خلال هذا الشهر أيضا إلى 25% تقريبا.

وغير ذلك من المؤشرات.

سؤالي الأخير، أليس هذا دليلا على أن مليون موعظة لا تجدي نفعا إذا لم يرافقها إجبار «إيجابي» للفرد على سلوك صحيح، من أجله هو ومن أجل المجتمع كله.

أليس إصلاح هذه «التفاصيل» المهمة، أنفع لنا وللآخرين من الانشغال الكلامي «الدائم والوحيد» بعظائم الأمور.. والمشكلة أنه لا الصغائر تتحسن ولا العظائم تنحل.. يبقى بينهما الخطب فقط.

[email protected]