حلول للحاضر من كهوف الماضي

TT

يلاحظ المراقب للشأن السياسي العراقي أن بوصلة التحالف الكردي تتجه نحو الشيعة دوما، ومرد ذلك يعود إلى قرون خلت منذ تأسيس الحكومة العراقية الحديثة، إذ تعرض الكرد إلى اضطهاد قومي دفعوا ثمنه بكثير من الويلات والدمار والخراب والدماء والتخلف الحضاري. وفي الجانب الآخر تعرض الشيعة إلى اضطهاد طائفي لا يختلف في حيثياته عما لحق بالكرد، ومن أبرز سمات هذا التحالف هو فتوى المرجع الأعلى آية الله العظمى السيد محسن الحكيم الذي حرم قتل الكرد، مما منح قوة معنوية هائلة للحركة التحررية الكردية، إذ كما هو معلوم فإن أغلب عناصر الجيش العراقي هم من الطائفة الشيعية، مما ولد ضغطا هائلا على الحكومة، وبالمقابل منح الشرعية للمقاومة الكردية.

واستمرت هذه العلاقة حتى رد الكرد في بداية التسعينات باستقبال الشيعة في المناطق المحررة من كردستان. وكما هو معروف تم بناء جامع كبير للشيعة في السليمانية باسم «الحكيم» وفي العاصمة أربيل ثمة شارع أيضا باسم «الحكيم» وأخذت العلاقة بالتنامي والتطور، فضلا عن أن الذين حكموا من العروبيين كانوا شديدي القسوة في اضطهادهم القومي، فانعكس ذلك على التوجه الاستراتيجي للكرد باتجاه الشيعة بوصفهم حلفاء تاريخيين. وعلى الرغم من زوال النظام الشوفيني فإن هناك من لا يزال يتبنى ثقافته.

جميع هذه المعطيات بحاجة إلى إعادة قراءة، إذ نحن بحاجة إلى تفكيك هذه العلاقات برؤية جديدة تنسجم مع معطيات التجربة الديمقراطية التي ما زالت تعصف بها قوى الإرهاب والتدخلات السافرة من دول الجوار. ومما تقدم نلاحظ أن سبب التعقيد الشائك والمضطرب الذي يشكل عقبة في اختيار تشكيل الحكومة هو التنازع على السلطة برؤية طائفية، إذ أن أغلب الأحزاب ذات توجهات دينية، وإلا لماذا لم يُسمح مثلا لعلاوي بتشكيل الحكومة، إذ يعتقد بعض ممثلي الشيعة السياسيين أن هذه القائمة تمثل طيفا آخر، وهذا يعود إلى بعده التاريخي كما أسلفنا. إذن فلا غرابة من رؤية الأزمة المتشظية بالخلافات حتى وصل بها الأمر إلى تحذير السيد مسعود بارزاني مؤخرا من وقوع العراق في اضطراب طويل وعميق ما لم يتم العمل بالدستور، وإعطاء الفرصة لممثل الكتلة الفائزة التي يمثلها إياد علاوي في الانتخابات لتشكيل الحكومة وإجراء التحالفات السياسية التي تؤهله لذلك على الرغم من صعوبتها.

نعتقد أن هذا الموقف قراءة حقيقية وواقعية تشير إلى حجم الأزمة وخطورتها، وهي دعوة للكتل السياسية لأن ترتقي إلى مستوى المسؤولية. فالعراق مهدد من دول الجوار لسد الفراغ السياسي إذا ما استفحلت الأزمة وتعقدت أكثر.

السؤال هو: لماذا لم تسمح الكتل السياسية على سبيل المثال لإياد علاوي بتشكيل الحكومة كما حدث في بريطانيا عندما فاز ديفيد كاميرون بغالبية لا تؤهله لتشكيل الحكومة؟ فعمدوا إلى تشكيل حكومة ائتلافية. إذن الوضع يحتاج إلى تفكيك هذه البنية المشوهة للعلاقات السياسية التي تضع مصلحة الطائفة فوق مصلحة الوطن ومن جميع الأطراف الفاعلة في العملية السياسية، إذ ستبقى التجربة العراقية كسيحة وهشة وغير مؤهلة لتجاوز المرحلة، ما لم تجر تبلور رؤى سياسية تخرج من ضغط الطائفة واللجوء إلى رؤية حضارية تنتمي لروح العصر.

فمن غير الممكن أن نبقى أسيري رؤية ساكنة وبدائية، والعالم من حولنا متسارع في التحول والتغير حتى وصل الأمر بهم إلى صناعة خلية صناعية ونحن غارقون في إيجاد حلول للحاضر من كهوف الماضي.