الباب المفتوح واللمبة الحمراء

TT

بحكم ترددي منذ زمن على الدوائر الحكومية والشركات، أصبحت لدي خبرة أو فراسة «تعبانة» في قراءة بعض الشخصيات، وهذا ما أفادني أحيانا لنيل مآربي، وأحيانا مثلما يقول الفصحاء «قلب لي ظهر المجن» - مع أنني إلى الآن لا أعرف ما هو المجن!! - ومع ذلك ما زلت أردده كالببغاء. وسوف أروي لكم في هذه العجالة موقفين كنت شاهدا عليهما.

الموقف الأول كان لشخصية خليجية، هو وكيل وزارة، وعندما دخلت إلى مكتبه لم أجده عليه، وإنما وجدت مجموعة من المراجعين الجالسين بانتظاره، وأخذت مقعدي بينهم، وبعد فترة إذا بشيخ بدوي يتوكأ على عصاه وبيده ورقة مراجعة، فوقف برهة ينظر وإذا الكراسي كلها مشغولة، وخطر على بالي أن أقوم من مكاني ليجلس فيه، غير أنني قبل أن أفعل ذلك كان هو قد سبقني وجلس على كرسي الوكيل مواجها لنا بكل براءة، أخذ البعض يتضاحكون، فيما كنت أفكر في كيفية رد فعل الوكيل عندما يحضر كيف تكون؟! وفعلا ما هي إلا دقائق وإذا به يدخل ويشاهد ذلك العجوز متصدرا مكتبه، اتجه له وطرح عليه السلام مبتسما وسأله: ماذا عندك يا عم؟! فمد له العجوز الورقة وهو ما زال جالسا في مكانه، وأخذ الوكيل يقرأها وهو واقف ثم شرح عليها، وضرب الجرس، وعندما حضر الفراش أعطاه الورقة قائلا له: اذهب مع هذا الشيخ للدائرة الفلانية ولا تتركه إلا بعد أن تنتهي معاملته على أكمل وجه، ثم قال للعجوز: تفضل معه حفظك الله.

الواقع أنني عندما شاهدت هذا التصرف الحكيم من سعادة الوكيل، وجدتها فرصة سانحة لأستغلها بفاصل من المديح «فعلّ وعسى» أن يؤثر عليه «ويمرر» معاملتي، فرفعت صوتي قائلا: جزاك الله ألف خير، هذا هو فعل الرجال والا بلاش، فرمقني الوكيل بنظرة باردة دون أن يرد علي، ويبدو أن ذكاءه لمّاح، وهو ليس ممن يغرّهم الثناء، لأنني أول ما قدمت معروضي له شرح عليه بكل صرامة: «يعامل حسب النظام»، وأنا ما ذبحني غير النظام، ويا ليتني ما «تلقفت» وتكلمت ومدحت، ورحم الله «براقش» فقد كانت أكثر رزانة مني. أما الموقف الثاني فقد حصل لي في بلد عربي شقيق، عندما ذهبت لزيارة صاحب شركة مرموق، كنت أعرفه سابقا عندما كان «على الحديدة»، غير أنه بقدرة قادر أصبح ما بين عشية وضحاها من أصحاب الملايين ويملك قرية سياحية كاملة، ولما وصلت إلى مقر الشركة اتجهت إلى سكرتير المكتب طالبا مقابلة «الباشا» - وهذا هو اللقب الذي أصبح يسبق اسمه - اعتذر السكرتير لأن الباشا لديه في الداخل اجتماع مهم، وأشار «للمبة الحمراء المولعة» فوق باب المكتب، يعني افهم وخليك ساكت. جلست مستسلما، وسألني إن كنت أريد أن أشرب قهوة أو «ليموناضة»، فاخترت الأخيرة، وأخذت أمزمز على الكأس ثلاثة أرباع الساعة تقريبا، وفجأة انطفأت اللمبة وفتح الباب، وإذا به ينشق عن فتاة «فلقة القمر» تخرج وهي تشد من بلوزتها دون أن تتلفت، تصاحبها رائحة عطرية خفيفة ولطيفة.

تكلم السكرتير مع الباشا قائلا: إن فلان الفلاني في الانتظار، فقال: دعه يدخل، وما إن دخلت حتى وجدته يمسح العرق من وجهه بمناديل «الكلينكس»، وقف واتجه نحوي يعانقني وشممت فيه - يا سبحان الله - نفس الرائحة العطرية الخفيفة اللطيفة التي شممتها قبل قليل، فقلت في نفسي: لعلها «توارد خواطر» وأنا لا أدري! وقبل أن أسأله قال لي: أكيد شاهدت الفتاة التي خرجت، هذه يا سيدي قمة في الأخلاق والذكاء، ولديها مؤهلات رائعة، وأنت تعرف تنافس الشركات على الكفاءات، لهذا استقطبتها واختبرتها بنفسي.

قلت له: إن شاء الله كانت النتيجة ناجحة؟! قال: طبعا، طبعا لقد عينتها مستشارة في الشركة.

الخلاصة هي: أن هناك مسؤولا يترك باب مكتبه مفتوحا على مصراعيه، ولكنه لا يمرر المعاملات إلا حسب «النظام»، ومسؤولا يغلق عليه باب المكتب وفوقه لمبة حمراء، ويتخذ قراراته حسب «المزاج». ولكن قد يكون لذلك الأخير عذره، خصوصا إذا كان يعمل لصالح شركته التي يملكها، وهو حر فيها، ويا ليتني موظف في شركته، وتكون مهمتي هي فقط اختبار الكفاءات.

[email protected]