تركيا ليست نور ومهند.. فقط

TT

جحافل مسلسلات مكسيكية وكورية وهندية وتركية مدبلجة تغزو إعلامنا العربي والمغربي، مسلسلات مدبلجة بالعامية السورية والمغربية توهم المشاهد العربي أن العالم قرية صغيرة، وتلقي بظلال حميمة موهومة، وتزج به في قلب مجتمعات بقيم وهوية غريبة عنه.

مواقف في الشارع المغربي أو في قبة البرلمان تتأرجح بين القبول والرفض، وزير الاتصال المغربي يدافع عنها، وبرلمانيون ينتقدونها، علماء دين عرب يفتون بضرورة اتقاء شرورها وخبثها، مع أن فساد بعض المسلسلات العربية قد يكون أفظع وأكثر خدشا لحياء بعض أسرنا العربية المحافظة. انشطار يعكسه الشارع المغربي بحسب ثقافة المتلقي ومستوى إدراكه للأمور.

هناك من يبرر تماهي المشاهد المغربي مع أحداث هذه المسلسلات، وخاصة التركية، بالفراغ العاطفي والجمالي والإنساني الذي يعيشه المواطن المغربي والعربي، وغياب ما يكثف من نعومة عوالمه الجرداء، فصورة الزوج الشهم الفحل الودود الكثير البوح بمشاعره بدأت تغيب عن مجتمعاتنا العربية، بشكل خلق حالات طلاق بين الأزواج كما يزعمون نتيجة شح وبخل البوح العاطفي، وهم يجهلون أن سببه ربما فواتير الماء والكراء والكهرباء التي تلوح له كلما لمح زوجته عن بعد، أو بسبب الإرهاق الذي يستشعره بعد يوم ضاج ومتعب بشكل يجعل أقرب الطرق إلى قلبه الصمت عوض المعدة، أو بسبب تربية أسرية علمت الرجل أن بوحه ضعف وقلة قيمة، وأن كبت المشاعر والدموع رجولة وفحولة.. مع أنني أرى أن الأمر مبالغ فيه، ولا يمكن لنانسي عجرم ولا هيفاء ولا نور أو مهند أو لميس أو يحيى أو شهرزاد... أن يحطموا حياة زوجية متماسكة، اللهم إذا كانت هاته الشخصيات تلك القطرة التي أفاضت كأس العلاقة الزوجية.

هناك من يبرر هذا الإقبال بعملية الدبلجة التي فكت العزلة اللغوية عن أقطارنا العربية، وجعلت العامية تنافس الفصحى سواء في المغرب أو في دول عربية كسورية ومصر، مع أن المنافسة في المغرب كبيرة بسبب التوجه الإعلامي السمعي والبصري أو المكتوب لتشجيع العامية المغربية.

وهناك من يبرر هذا الإقبال العربي بالحبكة الدرامية المتينة للمسلسلات التركية مثلا ودقة التصوير وفنيته وقوة تأثير المَشاهد، بشكل يسلب لب المُشاهد ويقدم له البدائل في غياب دراما وسينما عربية مثيرة وجادة.

وربما أن المشاهد المغربي والعربي يفقد الإحساس بالمسافات الزمانية والمكانية مع مجتمع تركي، قريب منه في أعرافه وطقوسه وتقاليده من خلال شهامة شخصياته ونخوتهم وبطولاتهم بشكل يذكرنا بالنخوة الذكورية العربية التي يعتلي فيها البطل صهوة جواده شاهرا سيفه في وجه كل من حاول الظفر بقلب حبيبته، أو من خلال تقاليد الزواج وطقوسه، والتعاضد الأسري والعائلة الكبيرة التي يقتسم ضوءها ودفئها كل الآباء والأبناء والأحفاد في حالة من الرضا والحب والقناعة عوض الأسرة النووية التي أصبحت تسود مجتمعاتنا العربية على غرار النمط الغربي.

شيء جميل أن ننفتح على ثقافات وحضارات أخرى من خلال أعمال درامية مكسيكية أو هندية أو تركية التي قد تطمح أحيانا إلى التعريف بثقافتها وحضارتها وطقوسها في بعض مسلسلاتها، وبالفعل فقد انتعشت السياحة التركية بعد هذه الطفرة الدرامية التركية، لكن الخطير أن ننفتح ببلادة ومن دون مصل واق مضاد، فنتشبع بقيم غريبة عنا بحيث تغدو جزءا من كياننا وواقعنا وهويتنا.

ونتيجة الانحلال الأخلاقي وأزمة القيم التي نعيشها للأسف في مجتمعاتنا العربية بسبب «الحداثة» المزيفة التي نتوهم العيش في أحضانها، تذوب وتتلاشى تلك المسافات بين المتلقي وبعض المسلسلات المدبلجة، وخاصة المكسيكية والكورية، لتخلق حالة من التماهي الخطير بين الطرفين، وفي غياب أي رقابة ذاتية تتسلل تلك القيم ببطء إلى عقولنا، بشكل يخلق خدرا وانتشاء جسديا، فتلغي كل قدرة على التفكير السليم، بحيث يغدو الحمل قبل الزواج والعلاقات غير الشرعية وشرب المسكرات من الأمور الطبيعية التي لا يجب أن نخجل منها، بل نتقبلها بصدر رحب وعقل منفتح.

لذلك، فمن الواجب أن نمتلك تلك القدرة على التمييز بين الجيد والرديء من الأفكار المستوردة، مع غربلة كل منتوج درامي أو سينمائي، من طرف لجان فنية مختصة تسهر على ذلك. فلسنا مطالبين بالتهام كل ما يقدم لنا بشره وبلا أدنى تفكير، ناهيك عن تجنيد جمعيات لتقديم الدعم والتوعية الاجتماعية والدينية بمخاطر الإعلام ومساوئه وسمومه، مع التأكيد على دور القراءة والتثقيف في تحصين الإنسان العربي وحمايته من كل أشكال التردي والابتذال والميوعة الثقافية.

ومن الضروري الوعي بأننا أثناء تسمرنا أمام مسلسل تركي بتركيز ولهفة شديدين، فإننا نكون أمام مجتمع تركي وإن كان يشبهنا في بعض العادات والطقوس والأعراف، فبعض هذه المسلسلات غريبة عن هويتنا الإسلامية، وغريبة عن قيم المجتمع التركي غير المنسلخ عن مبادئ الإسلام كما يوحي لنا الإعلام الغربي والعربي، ولا تعكس بشكل جلي انشغالات وهموم شرائح هامة من الشعب التركي المتشبع بالقيم الدينية، والمعتز بتاريخه وحضارته، والمنشغل بالقضايا المصيرية العربية، كالقضية الفلسطينية.

ولعل «أسطول الحرية» حقيقة دامغة على أن أشداء الأناضول لا يضحون بأرواحهم للظفر بالحبيبة فقط، وأن تركيا ليست هي نور ومهند ويحيى ولميس.. بل هي شعب تركي متسامق بعيد الشأو، مناضل مهموم بالقضايا العربية النازفة في الجسد العربي، لم تثنه عضويته في حلف الناتو وتحمسه لعضوية الاتحاد الأوروبي عن رفع صوته المعارض لكل اعتداء إسرائيلي على فلسطين، تركيا هي شعب هب لنصرة أخيه، وفك حصار جائر على شعب غزة بعنفوان وإباء. وضرب بعرض الحائط صلادة العلاقات الإسرائيلية - التركية، وفضح أمام العالم (إلى جانب دول أخرى في قافلة الحرية كإنجلترا والسويد واليونان والجزائر ولبنان والكويت والمغرب) الغطرسة والهمجية الإسرائيلية وسلبية حليفتها الأميركية التي ما زالت ستحقق في الأمر.

فإذا كان الغزو الدرامي التركي للوجدان والعقل العربي يستوجب الحيطة والحذر والكثير من التفكير قبل الإقبال عليه، فغزو تركيا عبر «أسطول الحرية» لوجدان وقلوب الفلسطينيين والعرب لم يستوجب أدنى تفكير، لأنه بكل بساطة غزو مشروع وعن جدارة واستحقاق، هو غزو حمل معه الكثير من الآمال لشعب غزة وللشعوب العربية، وإن أريقت بين جنباته الكثير من دماء الشهداء الأتراك وغيرهم.

أظن أن كل جديد مبهر ومثير للاهتمام في البداية، والمسلسلات المدبلجة لا تعدو أن تكون ظاهرة جديدة طفت على السطح وسرعان ما ستخبو، لكن «أسطول الحرية» لحظة تاريخية حملها الزمن العربي عبء هزائم وانكسارات عربية لا تحصى، هي لحظة لن تبهت ولن تخبو، بل ستظل تستل الانبهار والتقدير من الشعوب العربية مهما تطاول الأمد وتغير الحال.

* كاتبة من المغرب