البابا والعلمانية الإيجابية

TT

من كان يتوقع أن يصبح الفاتيكان وعلى رأسه البابا من أكبر المدافعين عن الحداثة والعلمانية وحقوق الإنسان والحرية الدينية؟ يا له من تطور كبير بالقياس إلى باباوات القرن التاسع عشر بل وحتى منتصف القرن العشرين. ومعلوم أن الباباوات المتعاقبين كلهم أدانوا هذه القيم الحديثة واعتبروها رجسا من عمل الشيطان تماما كالمتطرفين الإسلاميين اليوم. يكفي أن نتذكر الرسالة البابوية الصادرة عن البابا بيوس التاسع عام 1864 لنتأكد من ذلك. فقد أصدر ثمانين فتوى لاهوتية بإدانة ثمانين مبدأ من مبادئ الحداثة كالعقلانية والليبرالية والعلمانية إلخ.. ولا يختلف كلامه في شيء عن إدانة قادة الإسلام السياسي لنفس المبادئ ولنفس الحداثة. وبالتالي فما كان يدينه باباوات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين أصبح البابا الحالي بنديكتوس السادس عشر يرحب به أجمل ترحيب ويدعو إليه. برافو! هذا يعني أن التطور ممكن حتى في المجال الديني واللاهوتي. وهذا يعني أنه حتى الثوابت المطلقة يمكن إعادة تأويلها وتفسيرها لكي تتماشى مع التطور وحركة التاريخ. وبالتالي فليكف بعضهم عن إرهابنا بثوابت الأمة! لا ثوابت للأمة إلا قيم الحق والخير والعدل والتسامح والمحبة واحترام إنسانية الإنسان أيا يكن بغض النظر عن أصله وفصله أو عرقه أو دينه ومذهبه.

إن البابا الحالي يقوم بعمل إيجابي، ولا يخرج لحسن الحظ على المقررات اللاهوتية الثورية للفاتيكان الثاني التي جددت فكر الكنيسة الكاثوليكية وصالحتها مع عصر التنوير والقيم الأساسية للحداثة. هذا ما تجلى لنا من خلال زيارته الأخيرة لقبرص وقبلها زيارته للمسجد الأزرق في اسطنبول وجامع الملك حسين في عمان، ثم بالأخص من خلال ورقة العمل المهمة التي ستناقش أوضاع المسيحيين العرب، في روما، في الخريف القادم. لقد قرأت ورقة العمل هذه على الإنترنت بكلتا اللغتين العربية والفرنسية ووجدتها ممتازة. ولكن ينقصها شيء واحد في رأيي: هو أخذ البعد التاريخي أو بالأحرى التفاوت التاريخي بين العالم الأوروبي من جهة، والعالم العربي والإسلامي كله من جهة أخرى بعين الاعتبار. فهي تعتقد ضمنا أن ما تحقق في مجتمعات الغرب على مدار ثلاثة قرون من الأخذ والرد والصراع المتواصل يمكن أن يتحقق في عالمنا الإسلامي في بضع سنوات! هذا شيء مستحيل. كم حاربت الكنيسة الكاثوليكية أفكار الحداثة والديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان؟ رفض الفاتيكان أصلا أن يعترف بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لأنه ينسى حقوق الله. ولذلك كان من الدول القلائل جدا التي رفضت الاعتراف به عندما صدر عام 1948. ثم تراجع عن موقفه لحسن الحظ بعد الفاتيكان الثاني والثورة التجديدية الكنسية. والآن أصبح يفهم أن: من يحتقر حقوق المخلوق يحتقر بالضرورة حقوق الخالق، بحسب تعبيره الجميل في ورقة السينودس الأخيرة، ومن يخرج على هذه يخرج على تلك. انتهت العصور الوسطى، يكفي!

لا يمكن للعالم العربي ومن ورائه العالم الإسلامي كله أن يعترف بالقيم الأساسية للحداثة التنويرية ضمن الحالة المأساوية الفاجعة للأمور. البابا مدرك لذلك بشكل ضمني، ولذلك يحث القوى العظمى على حل مشكلة الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. ويمكن أن نقول أيضا الصراع العربي - الإسرائيلي. ولكن بما أنه القائد الروحي للغرب المهيمن على مقدرات الأمور، ألا يمكنه أن يضغط على زعماء أوروبا وأميركا لكي يفعلوا شيئا ما في هذا الاتجاه؟ أعتقد شخصيا أن الرئيس أوباما مقتنع بهذا التوجه الإيجابي. ولذلك أخذ الغلاة يطعنون فيه وفي رئاسته ويتمنون عدم إعادة انتخابه. هذا ما قرأته في جريدة «الفيغارو» مؤخرا على لسان بعضهم. البابا ومعه ورقة السينودس المهمة هذه يندد بهذا الوضع الإجرامي الذي فرض على الشرق العربي غصبا عنه ويقول بالحرف الواحد:

«فمنذ عشرات السنين وعدم حسم الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، وعدم احترام القانون الدولي، وأنانية القوى العظمى، وعدم احترام الحقوق الإنسانية، كل ذلك تسبب في اختلال التوازن في المنطقة وفرض على شعوبها حالة من العنف تهدد بأن توقعهم في اليأس».

كلام صحيح لا غبار عليه. ولهذا السبب تزدهر الحركات الأصولية وتنتعش وتكسب المزيد من الأنصار. وهي نفسها الحركات التي يشتكي منها البابا ويلومنا عليها. ولكن كيف نستطيع مواجهتها إذا كان الغرب نفسه بسياسته الرعناء يرفض أن ينزل بثقله لحل المشكلة الأساسية في المنطقة. الغرب هو الذي يغذيها بسياسته الجائرة المختلة التوازن، وبالتالي فلا يحق له أن يشكو منها. هكذا نجد أنفسنا وكأننا ندور في حلقة مفرغة. بالطبع لن أقع في الديماغوجية السياسية وإنما سأعترف بأن هناك عوامل داخلية أيضا لانتعاشها ونحن المسؤولون عنها.

أخيرا فإن العلمانية ضمن هذا المنظور الإيجابي المنفتح ليست معادية للدين إطلاقا وليست مرادفة للإلحاد كما تتوهم شريحة عريضة من جمهور العرب والمسلمين. وإنما هي تعترف اعترافا كاملا بدور الدين ولكن مع التمييز بين النظام الديني والنظام السلطوي السياسي. وهذا يعني شيئين: أولا، الاعتراف بمواطنية واحدة للجميع مسلمين كانوا أم مسيحيين. وبالتالي وضع حد للمفهوم القروسطي المزعج جدا وغير المقبول في عصر الحداثة: أهل الذمة. بل وحتى ينبغي الاعتراف بالمواطنية الكاملة لغير المؤمنين أو غير المتدينين. فكل متدين هو مواطن بالضرورة، ولكن ليس كل مواطن متدينا بالضرورة. وثانيا، الاعتراف الكامل بالحرية الدينية: أي حرية الضمير والمعتقد وليس فقط حرية الشعائر الدينية.

فالإيمان لا يفرض فرضا أو قسرا على أحد. وإلا فلا قيمة له. إذا لم يكن نابعا من الداخل فلا معنى له. ولكن لكي نتوصل إلى ذلك يوما ما كم من المعارك الفكرية والسياسية التي سنضطر إلى خوضها؟