تبضيع السلطة

TT

إذا لم تستطع أن تمتلك السلطة فعليك بتبضيعها، أي تجزئتها وتقسيمها، فمن يفوته الكل عندئذ لن يفوته الجزء، إنها مرحلة ولون آخر من مراحل الأزمة السياسية التي سيدخلها العراق والتي دارت وتدور، وإن بمستويات ووسائل متعددة، حول المسألة المركزية، وهي الصراع على السلطة. إنه صراع صلاحيات، وصراع اشتراك في القرار، وصراع انتفاع واقتسام للموارد، وأخطره عندما يتحول إلى صراع بقاء لدى البعض.

هناك مستويان متلازمان من الصراعات السياسية أو المساومات، سيدخلها الساسة خلال الأسابيع القادمة، وهما الصراع حول اختيار رئيس الحكومة والثاني حول سلطاته وصلاحياته، والأخير لا يقل أهمية عن الأول، بل يختزن كمية كبيرة من المخاطر التي تدفع إليها الهواجس والمخاوف. ولكن، هنا علينا التمييز بقصد تبيّن الرجحان، مخاوف لدى من؟ ومخاطر على من؟ إنها مخاوف الأحزاب والكتل وزعامات سياسية، والمخاطر على الشعب والبلد وفرص تقدمه وفاعلية مغادرته الركود وإيقافه للتراجع وردم فجوة التأخر المتسعة عن نظرائه. بلا ريب، وبناء على السوابق وليس على التكهن، أنه عند التعارض بين المصلحتين، فإن مصلحة الأحزاب وديمومة بقائها وصدارة زعاماتها هي الوازنة وهي الواجبة التقديم على مصالح الشعب، لاعتبارات تراها الأحزاب بأن المصلحتين متماهيتان، وأنها الأعرف بمصالح جمهورها والأقدر على إدارتها وتمثيلها، وأنها مالكة التفويض للتصرف عنها.

مخاوف وهواجس الأحزاب والكتل وقياداتها الباعثة على تقييد أو نزع بعض صلاحيات المنصب الأول، تتركز بالتالي على أن العراق ما زال في طور التشكل، وعليه تريد أن يكون لها دور في رسم صورته. وثانيا في بلد من يمسك بالسلطة يمسك باليد الأخرى بريع الموارد وتوزيعها، فإن ذلك يظل على الدوام إغراء قويا للاشتراك بها وباعثا على مقاومة التهميش. ثالثا ولقطع الطريق على نشوء ما تسميه دكتاتورية جديدة، لما يمثله منصب رئيس الوزراء من صلاحيات وسلطات تغري القابض عليها باستغلال المنصب لتركيز سلطاته ولمنفعة تفرد كتلته وإقصاء وإضعاف خصومه، رغم أن هذه الأخيرة يدحضها الأمس القريب، فإن المالكي المتهم بكل ما سبق، والمراد إذا ما جدد له أن يكون منزوع الدسم والصلاحية، فإن مسكه للحكم لم يعاونه لا بسحق المنافسين له حتى في ساحته، ولا بمنع كتل من أن تتقدم عليه انتخابيا كما فعلت القائمة العراقية، رغم أن مفاصل وموارد السلطة المتهم باستغلالها كانت بيده.

إن نزع الصلاحيات ودعوات الاشتراك بها وخصخصتها بين الأحزاب والكتل، تطرح عبر سيناريو تجزئة صلاحيات رئيس الوزراء عبر ما يسمى بإيجاد حكومة الملفات، أي أن تتوزع الملفات على نواب له يمثل كل منهم كتلة سياسية كبيرة، فيكون الأمن بيد نائب والخدمات بيد ثانٍ والاقتصاد والمالية بيد ثالثة، وأن يتم الإجهاز على ما تبقى من صلاحيته عبر تشكيل مجلس أمن وطني تتمثل به هذه الكتل، ينتزع صلاحيات رئيس الوزراء كقائد عام للقوات المسلحة ويحولها لهذا المجلس، كون الأمن هو الملف الأخطر والأهم والمتعلق بالجميع، لذا فيراد الاشتراك به لا التفرد.

ولأن هذه الصلاحيات ليست منحة لتنتزع، بل هي دستورية لتعدل، لذا فإن ذلك لا يتم إلا عبر الالتزام باشتراطات تجبر الشاغل القادم لهذا المنصب على التقيد بها بإشراك الآخرين في سلطاته. هذا الجدل فضاؤه الآن داخل الأطراف الشيعية المختزنة لمرارة ما تسميه تجربة تفرد المالكي وحزبه بالسلطة، وسينتقل بعد إثخانهم له بالتقييدات إلى الفضاء الوطني عند فتح النقاشات مع الشركاء الوطنيين الذين سيكون لهم أيضا اشتراطاتهم.

أما المخاطر، فإن أهمها هو أن السلطة في العراق لا تشكو من القوة، بل من الضعف، ولا من التركز بل من التفتت. بل إن ضياع هيبة الدولة وضعفها هو الذي يقف وراء كل الإخفاقات، ناهيك عن أن ميل الشعب وتجارب الدول التي مرت بفترات انتقالية تؤكد تقوية السلطة كحل، لا على نزعة الإضعاف كما تميل الأحزاب. فميل الشعب الذي يمكن الركون إليه عبَّر عنه في الانتخابات الأخيرة، فنجد أن الزعامتين اللتين اقترنتا بصورة القوة، المالكي وعلاوي، حصدتا أكثر من مليون صوت، بل إن تفحص السلوك الانتخابي يبين أن التصويت بدا كأنه توجه لاختيار رئيس وزراء لا لاختيار برلمان. وهذا يدلل على التعويل الشعبي على إنتاج قيادة قادرة، ثم يساند ذلك أن كل التجارب الانتقالية، وآخرها دول المعسكر الشرقي، مرت وهي في طريقها إلى الديمقراطية بفترة فوضى لم تنقذها منها إلا زعامات قوية، وأوضحها روسيا وما عاشته من فوضى خلال النصف الأول من التسعينات، لم يخرجها منها إلا توافر زعامة بوتين القوية لها.

لذا، فإن إضعاف السلطة وتجزئتها سيضعف الآمال المعلقة على إنتاج سلطة قوية فاعلة تخرج صنع القرار من بطئه المعيق لعجلة التنمية والإعمار وتحقيق الاستقرار والأمن، بل سيقود إلى جعل الأحزاب أقوى من الدولة، وهذا ما سيكرس المحاصصة ويبقي البلد رازحا في دوامة المساومات، فضلا عن أن ذلك إذا ما أريد له أن يتم، فإنه لا سبيل له إلا خارج الدستور، وهذا ما سيجعل من السياسيين فوق الدستور وسيبرر المغادرات اللاحقة له. لذا، فالمخرج من الشخصنة ومن ميول الاستئثار تقوية المؤسسات لا إضعافها.