آخر انتصارين!!

TT

تعددت الانتصارات الأميركية مؤخرا، وفي كل مرة يعلن فيها رئيس أميركي انتصاره فإن ملايين المدنيين في بلدان بعيدة تدفع أرواحها وحياتها ثمنا لذلك. بدأت مسيرة هذه الانتصارات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) بغزو أفغانستان، وبعد ما يقارب عشر سنوات من تدفق أنهار الدماء هناك لا يزال المدنيون الأفغان يقتلون يوميا بالطائرات، بطيار أو من دونه، وأصبحت الحياة جحيما لا يطاق لأبناء ذلك البلد الجميل حيث يزداد الاتجار بالمخدرات، ويعم الفساد كل مفاصل البلد. وانتشر قتل المدنيين عبر الحدود إلى باكستان حيث يدفع الآلاف ثمن «الديمقراطية» و«حرية التعبير» و«تمكين المرأة» وغيرها من الشعارات القادمة من واشنطن ودوائرها الإعلامية لتصنع تصورا منفصلا تماما عن واقع ومعاناة المدنيين الأفغان والباكستانيين المثخنين بالقتل والتهجير والقصف والتفجير والعنف والحروب. الأكاذيب التي رددها الرئيس بوش لغزو العراق واحتلاله: من أسلحة الدمار الشامل إلى استيراد اليورانيوم إلى دعم «القاعدة» أدت إلى تحقيق «انتصاره» الخاص به رغم أنهار الدماء التي سالت من أجساد مليون مدني عراقي والخراب الذي أنزلته آلة الحرب الأميركية بهذا الشعب دعما «لأمن إسرائيل».

وفي الحلقتين الأخيرتين من مسلسل الانتصارات الأميركية التي حصدت الملايين من أرواح المدنيين المسلمين، ركزت الولايات المتحدة انتصارها على قطبين أساسيين هما إيران وهيلين توماس.

ففي الوقت الذي يعلم فيه الجميع، وأولهم الولايات المتحدة وأوروبا، أن إسرائيل هي وحدها التي تمتلك برنامجا نوويا عسكريا في الشرق الأوسط، لأنهما من مول وزود إسرائيل باليورانيوم والمفاعلات والماء الثقيل والخبرات والعلماء، وعلى الرغم من دعوتهما إيران طوال سنوات للموافقة على تبادل اليورانيوم مع دولة أخرى، فقد كان الرد المستغرب للولايات المتحدة على اتفاق إيران مع البرازيل وتركيا بتبادل اليورانيوم هو تأجيج ملف العقوبات على إيران من جديد وبذل جهود مضنية على مدى أشهر مع الصين وروسيا لتأمين مستلزمات موافقتهما لإنزال عقوبات شديدة تلحق الضرر بحياة المدنيين الإيرانيين رغم التصريحات اللفظية أن هذه العقوبات ليست موجهة ضد الشعب الإيراني.

المراجع الدينية الإيرانية تؤكد أكثر من مرة أن إيران تؤمن بتحريم السلاح النووي للجميع، وحق الجميع في امتلاك الطاقة النووية السلمية. كما أن الرئيس الأميركي باراك أوباما كان قد أرسل رسالة خطية إلى كل من تركيا والبرازيل طالبا منهما التوسط لدى الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الحل المتعلق باتفاق تبادل الوقود العالي التخصيب، ولهذا فقد فوجئ الجميع بالدعوة السريعة لمجلس الأمن إلى إقرار الوجبة الرابعة من العقوبات على إيران. ولكن ردة الفعل الإسرائيلية الأولى على الاتفاق الثلاثي بين تركيا والبرازيل وإيران كانت توحي بهذه النتيجة حيث «شكّكت» إسرائيل فورا بجدوى هذا الاتفاق بعد دقائق عدة على توقيعه. فلم يكن هناك من مجال أمام وزارة الخارجية الأميركية والإدارة الأميركية إلا أن تستمرا في جهودهما لإقناع الصين وروسيا بالموافقة على هذه العقوبات.

وربما لم يكن مصير هيلين توماس منقطع الصلة بالملف الإيراني، أوليست هي التي سألت الرئيس أوباما: «من هي في رأيك الدولة التي تمتلك رؤوسا نووية في الشرق الأوسط؟». وكان ذلك السؤال بداية النهاية لسيدة الصحافة في البيت الأبيض والتي عاصرت الرؤساء من كيندي إلى أوباما والتي عرفت بمواقفها الجريئة وأسئلتها الذكية اللامعة.

فماذا فعلت حين دعت إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وإعادة الحقوق لهذا الشعب؟ لم تكن هيلين توماس قد أطلقت النار على رأس أو صدر أحد عن قرب وبدم بارد كما فعل الجنود الإسرائيليون على ناشطي حقوق الإنسان الذين كانوا ينقلون الغذاء والدواء والكراسي المتحركة على متن سفينة الحرية لضحايا الحصار على غزة من الأطفال والأمهات. لم تهدم هيلين توماس منزلا أو تدنس مسجدا أو كنيسة، ولم تقتل طفلا كما يفعل المستوطنون في الضفة الغربية كل يوم، ولم تعذب أحدا في السجن إلى حد الموت كما فعل الجلادون الإسرائيليون في سجن الخيام وفي سجونهم الكبيرة والصغيرة، السرية والعلنية.

بلحظة واحدة اعتبر الناطق باسم الخارجية الأميركية تصريحاتها «مشينة» وامتنعت فورا المطبوعات «الحرة» عن استقبال كتاباتها!! وعزلت في حادثة تليق بالحكم الستاليني في أوائل القرن الماضي في روسيا السوفييتية. أين هي إذن «الديمقراطية» و«حرية التعبير» إذا كان هذا هو عقاب من يعبر عن رأيه في موقف سياسي بحت؟ ومن ذا الذي يجرؤ بعد على اتخاذ موقف لصالح شعب معذب، وتحقيق العدالة له؟ أم أن «الديمقراطية» و«حرية الرأي» متاحتان في الولايات المتحدة ما دام أنهما قابلتان أن تكونا منسجمتين مع سياسة الدولة في «حماية أمن إسرائيل»، ولكن إذا قارب أحد المحرمات الصهيونية فإن أبواب الجحيم ستنفتح حماية لـ«أمن إسرائيل» التي أصبح مؤكدا أن الإدارات الأميركية مستعدة لإنفاق المليارات من أموال الشعب الأميركي، ولإزهاق أرواح الآلاف من الشباب الأميركي في الحروب التي تشنها نيابة عن إسرائيل، مرة ضد العراق، والآن تشديد العقوبات على إيران يشير إلى حتمية المسار نحو الحرب عليها، وقد بدأت الدوائر الصهيونية بالقول إن الإدارة الأميركية غير مقتنعة بجدوى العقوبات، في تمهيد عملي لحرب قادمة على إيران، تماما كما فعلوا بالعراق، إنهاكه أولا بالعقوبات ومن ثمّ مهاجمته عسكريا.

إذن، المسموح فقط في الديمقراطية الأميركية هو الإشادة بالانتصارات التي يحققها «الأخ الكبير»، أما من يسول له عقله انتقاد أي خطوة من خطوات «الأخ الكبير» فإن محاكم التفتيش معقودة دوما وجاهزة للمحاسبة والمحاربة. وحتى إذا تجرأت أوروبا على التأكيد على ضرورة كسر الحصار المفروض على غزة فإن أميركا تتهم أوروبا فورا بأنها لم تكن «عاملا مساعدا» وأن مواقفها تقوض جهود الولايات المتحدة «للسلام»!!

ولكل الذين يعتقدون أن الموقف من إيران بني على أساس أنها من الشيعة، ويسعدون بذلك لأنهم ليسوا شيعة، فإن المسلمين في العراق وأفغانستان وباكستان والصومال والسودان واليمن ليسوا من الشيعة، وإن مسار «الأخ الكبير» لا علاقة له بالسنة أو الشيعة، بل بدعم «أمن إسرائيل» الذي يجب أن تسخّر الولايات المتحدة كل إمكاناتها المالية، وعلاقاتها الدولية، وسمعتها الوطنية، وصدقيتها السياسية له.

سيستفيق الأميركيون يوما ليدركوا أن خطر انصياع حكومتهم وكونغرسهم الكامل لمطالب الصهيونية وإملاءاتها، التي تمثل «الأخ الكبير» المهيمن على عالمهم، بات يشكل تهديدا ليس على أمن وسلامة الشعوب الأخرى وحسب، بل وعلى حرياتهم الفردية، ومنها حرية التعبير.

ليس في الولايات المتحدة الكثير ممن يجرؤ على أن يتحلى بشجاعة امرأة قاربت التسعين، مثل هيلين توماس، التي أمضت عمرها تعبر عن قناعاتها، إلا أنها اصطدمت في زمن المكارثية الصهيونية المهيمنة على كواليس الحكم في واشنطن بمحاكم التفتيش التي يقيمها اللوبي الإسرائيلي بإمكاناته المالية الأسطورية القادرة على شراء الذمم وابتزاز السياسيين والإعلاميين.

الانتصارات التي حققتها حكومة الولايات المتحدة بإصدار المزيد من العقوبات على بلد مسلم آخر، والتي تتباهى بها اليوم، سيكون لها حساب يوما ما مع الملايين من الشعوب التي تسبب لهم المآسي والكوارث خدمة لمتطرفين متعصبين مدججين بالأحقاد العنصرية الذين لا يعرفون للأخلاق أو للحياة البشرية قيمة أو معنى.