إيران النووية.. والصوت اللبناني!

TT

«قبائل لها أعلام: مسار خطر عبر فوضى الشرق الأوسط»

(عنوان كتاب للصحافي الأميركي تشارلز غلاس)

إذا كان كارل ماركس قد قال ذات يوم «الدين أفيون الشعوب»، فلعله لو كان حيا اليوم لتنبه إلى أن كرة القدم غدت المخدر الأعظم تأثيرا.. من دون التقليل من قيمة المتاجرين بالدين والمزايدين فيه. فعلى امتداد شهر من الزمن تتخدر شعوب الأرض، ولا سيما في العالم الثالث، فتتصرف كمن يسير في منامه. وتتجه الأنظار والأعصاب، مسحورة، مسلوبة الإرادة، إلى ملاعب جنوب أفريقيا لمتابعة «مونديال 2010». وفي دول تتعدد فيها الولاءات ويقل فيها الالتزام العاقل مثل لبنان، قد يستغرب المتابع كيف حلت أعلام الدول المتأهلة منتخباتها إلى نهائيات المونديال فجأة محل أعلام الأحزاب و«التيارات» والميليشيات وجمعيات تأليه الزعماء من كل القياسات والأوزان والألوان.

في لبنان ظاهرة تعدد الولاءات مسألة معلنة ولا حاجة إلى التستر عليها، لكن المستغرب أن الساسة اللبنانيين الذين يدركون هذا الواقع بل ويستغلونه في كل مناسبة مواتية، يتصرفون أحيانا وكأنهم آخر من يعلم. وفي الأسبوع الماضي، اختار رئيس مجلس النواب الرئيس نبيه بري، بعد تصويت مجلس الأمن الدولي على العقوبات على إيران، أن يتصرف كما لو كان لا يعلم. وفي مدينة ترتفع فيها أعلام عشرات من دول العالم الكروية، من دون أن تُطوى أعلام عشرات التنظيمات الحزبية والطائفية، انتقد بري على الملأ إحجام لبنان عن التصويت في مجلس الأمن. وبطبيعة الحال، جر هذا الموقف، على غرار كثرة من مواقفه «المتقنة» التوقيت، جدلا واسعا سمح لكل من هبّ ودبّ أن يدلي بدلوه فيه.

الرئيس بري، المشهود له بالذكاء، هو أدرى الناس بحجم لبنان وموقعه وتاريخه وتركيبته، ومع هذا ارتأى أنه كان على لبنان التصرف مثل تركيا في التصويت ضد القرار.

لبنان البلد الصغير ذو الأربعة ملايين نسمة.. يتاخم فلسطين المغتصبة، وتوجد قوات دولية في جنوبه مهمتها تبريد التأزم بعد اشتعال عدة مواجهات مدمرة نتيجة العدوان الإسرائيلي المتكرر عبر الحدود و«الخط الأزرق». ولا توجد في «فسيفسائه» السكانية طائفة واحدة تشكل أغلبية سكانه. وفيه حد أدنى من الحريات والديمقراطية وتنوع الآراء يعبر عنها مجلس النواب والحكومة مع أن مجلس النواب انتُخب، والحكومة شُكّلت، في ظل حراب طائفة واحدة.. مسلّحة حصرا.. تحت شعار المقاومة.

في المقابل، تركيا دولة يزيد عدد سكّانها عن 72 مليون نسمة، ولها امتدادات حيوية واستراتيجية في «العالم التركي» الذي يزيد تعداد سكانه عن 180 مليون نسمة، وهي راهنا في حالة تنافس مستتر مع إيران على زعامة العالم الإسلامي لا تتيح لها إضعاف موقعها المعنوي. لكن تركيا في المقابل، كما يعرف الرئيس برّي جيدا، عضو في حلف شمال الأطلسي ولا تزال لتاريخه تحتفظ بعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل. أما البرازيل فبلد يسكنه 193 مليون نسمة ويبعد عن إسرائيل آلاف الأميال، وهو «عملاق» اقتصادي وسكاني، للولايات المتحدة معه حسابات سياسية واقتصادية في القارة الأميركية.

فضلا عما سبق، كان الرئيس بري على علم بأن الدول الخمس الدائمة العضوية التي تتمتع بحق النقض «الفيتو» اتفقت على العقوبات، وبالتالي، كانت العقوبات ستقر بصرف النظر عن الموقف اللبناني. كما أنه على علم بأن تركيا والبرازيل هما «الدولتان الوسيطتان» في عملية التفاوض العلني والسري مع إيران، وعليه، كان لا بد لهما من تبني موقف يحافظ على صدقيتهما مع طهران في أي شوط توسطي أو تفاوضي مقبل. ثم إن المطلب العربي الدائم كان جعل منطقة الشرق الأوسط، ككل، «منطقة خالية من السلاح النووي».

تصويت لبنان مع أو ضد، أو امتناعه عن التصويت، ما كان ليؤثر في مسار الأمور شيئا، فلماذا إذن إثارة قضية خلافية جديدة بعد إثارة موضوع إنفاق أموال من خارج الموازنة؟ والتشكيك تكرارا بشرعية الحكومة السابقة.. التي حاول الرئيس بري وحلفاؤه إسقاطها في الشارع، بعد إقفال البرلمان، رغم تفهمه - وهو الحصيف العاقل - أبعاد التداعيات الطائفية والحسابات المذهبية لذلك؟

هل يجوز الإمعان في هذا التكتيك الابتزازي؟ وهل تخدم مواقف من هذا النوع التفاهم الوطني المتراجع على موضوع سلاح المقاومة؟