لعبة الأمم في المشرق العربي

TT

تاريخيا، المشرق العربي مهد حضارات. موطن ديانات. عقائد. فلسفات. مسرح صراعات عرقية. دينية. ميدان لغزاة عابرين. ومستوطنين. جعل معاوية من المشرق موقعا قوميا متقدما. ومركزا للانطلاق نحو نشر الإسلام في آسيا وأفريقيا، تحت راية الدولة العربية. العباسيون استكملوا التعريب. رسخوا عروبة الثقافة واللغة، قبل أن يسلموا الدولة إلى المنافسة الفارسية. التركية. الكردية.

على هذه الصورة السيريالية المشوشة، استمرت لعبة الأمم في المشرق، منذ التاريخ إلى الحاضر المعاصر. عرفت المنطقة المآسي. لم تعرف الاستقرار. تغير اللاعبون. غابت وجوه. حضرت وجوه. في العصر الحديث، أفاق المشرق على نداء عربي وحدوي. جاء النداء من مصر بقيادة إبراهيم نجل محمد علي. حرر المشرق. طارد العثمانيين إلى أبواب استنبول، فيما كان السعوديون يحررون الجزيرة العربية من مخلفات العصر العثماني.

بعد نابليون وإبراهيم ومحمد علي، انقضّت أوروبا على المشرق العربي. تنكرت للثورة العربية على الأتراك. اقتسمت بريطانيا وفرنسا المشرق. زرعت بريطانيا يهود أوروبا مستوطنين في فلسطين. بعد الحرب العالمية الثانية، تداخلت لعبة الأمم. اشتد الصراع العربي على سورية. كسب عبد الناصر الجولة. أوقف المد الشيوعي. حال دون غزو تركيا لسورية. أسقط حلف بغداد (التركي. الإيراني. العراقي). اهتبل الأميركيون الفرصة. استكملوا تصفية الاستعمار الأوروبي في المشرق.

لتصفية المد القومي، اخترع الأميركيون الإسلام السياسي والجهادي: سلموا الخميني إيران الشاهنشاهية. غزوا أفغانستان السوفييتية بالإسلام الجهادي العربي والطالباني. أطلقوا آلة الحرب الإسرائيلية في المشرق. فاحتلت الضفة. غزة. سيناء. الجولان. جبل عامل (جنوب لبنان).

شب الإسلام الجهادي عن الطوق. تمرد على أميركا. في إيران. لبنان. أفغانستان. في المشرق، تحولت سورية الأسد، بعد تصفية العنف الإخواني، من أداة في لعبة الأمم، إلى لاعب، مستعينة بحلف سيريالي (فوق الطبيعة والجغرافيا) مع إيران الخميني ضد صدام العراق. تخلت مصر مبارك عن دبلوماسية ناصر الشعبية. لكن استعادت عروبة مصر. وتمكنت مع السعودية من ترسيخ الاستقرار الداخلي، بتحييد الآثار التخريبية لحركات الإسلام «الجهادي».

تغيرت اللعبة في القرن الجديد. دخلت الصراع دول إقليمية. مدت إيران قدميها خارج سريرها. سوف ترث العراق من غباء أميركا بوش. قد ترث أفغانستان من «ذكاء» أميركا أوباما، مستفيدة من محاولته تصفية طالبان السنية. لاعبون جدد. أمسكوا الريشة بمهارة. أضفوا على لعبة الأمم ألوانا مثيرة. مع التوصل إلى وفاق مع السعودية في لبنان، واصل الأسد الابن تفكيك حلفه العروبي مع مصر والسعودية، ليدخل في حلف إقليمي مع تركيا، إضافة إلى ملفه مع إيران.

اللاعب التركي لا يقل مهارة عن اللاعب السوري. إردوغان يتحرك في ثقة مطلقة بنفسه. بنظامه. بسياسته. لم يتخل عن الديمقراطية. يملك أغلبية نيابية مريحة. يملك شارعا جماهيريا ضد معارضة علمانية منقسمة وضعيفة. لكن المغامرة التركية، في منطقة متقلبة العواطف، محفوفة بالخطر. إردوغان يريد أن يبرهن لأوروبا على مدى ما يستطيع أن تفعل تركيا مشرقية وإسلامية.

تلقت أوروبا توبيخا من أميركا على نبذها تركيا. أوروبا تريد تركيا جنديا في مخفر الحراسة (الناتو). لا تريدها شريكا في نادي النخبة (الاتحاد الأوروبي). يدخل إردوغان المناور لعبة الأمم من البوابة الاقتصادية. حزب «العدالة والتنمية» حزب البزنس ورجال الأعمال. ثم من بوابة حسن الجيرة مع العرب. الأرمن. الروس. الفرس. الأكراد العراقيين.

لكن ما هي النتائج المترتبة على التورط التركي في لعبة الأمم المشرقية؟ لم تنجح تركيا والبرازيل في إنقاذ إيران من العقوبات الدولية. الوفاق التركي/الإيراني لن يستمر طويلا، بسبب تضارب المصالح في المشرق. نجاد وخامنئي يأكلهما الحسد لشعبية إردوغان «العروبي». الفراق قادم لا محالة، إذا نجحت إيران في إعادة إعمار سقفها الداخلي، وتجاوزات حصار العقوبات.

النجاح التركي في اختراق المنطقة انعكس بمزيد من العزلة والفشل، على إدارة أوباما. أمر محزن أن يخفق أوباما الرئيس المثقف الوحيد في تاريخ أميركا، في فرض حل عادل على إسرائيل. أمر محزن أن يتورط في حرب غير عادلة في أفغانستان وباكستان. قبول أميركا أوباما لعالم متعدد الأقطاب، فسر بتراجع القوة الأميركية. باتت دول متوسطة الحجم والدخل، كتركيا. البرازيل. إيران. ليبيا. جنوب أفريقيا... عازمة على لعب دور أكبر على الساحة الدولية.

لكن لعل أكبر أخطاء التسرع التركي في دخول المشرق العربي، هو حلف «الجنتلمان» مع تنظيمات الإسلام السياسي. سفينة نوح التركية (مافي مرمرة) أبحرت إلى غزة حاملة ممثلين لهذه الحركات من المحيط إلى الخليج. هذا الحلف يعطي دفعا لهذه الحركات، لهز أمن واستقرار النظام العربي، بعد النجاح الذي سجله النظامان السعودي والمصري، في كبح جماح العنف الديني.

هل تأمل تركيا إردوغان في أن يحقق الإسلام السياسي والحربي في العالم العربي انفتاحا، على شاكلة الإسلام التركي؟ التجربة الطويلة أثبتت إخفاق الحركة الإخوانية، بالذات، في مصالحة إسلامها مع العصر. القيادة الإخوانية عجوزة في مصر. منقسمة في الأردن. تائبة. مستغفرة في سورية. جهادية في اليمن. متخلفة عن الترابي في السودان. متحالفة مع أميركا في العراق.

الإمارة الإخوانية في غزة دليل ومثال. دمرت حماس التجربة الديمقراطية الفلسطينية. انقلبت على السلطة الشرعية مستغلة تشرذم فتح. رفضت خوض انتخابات جديدة. لأنها تعرف أنها ستخسر تأييد شعب غزة المحاصر إسرائيليا. والمختنق بتزمت التجربة الإخوانية. تجاوزت حماس الوحدة الوطنية والقضية. تظن أن طوق الإنقاذ التركي سوف يجبر أوروبا وأميركا على فتح حوار معها. لكن أوروبا تطالبها بإعادة السلطة الفلسطينية الشرعية إلى غزة. أميركا سوف تقدم مساعدات إضافية إلى شعب غزة، لكن عبر مؤسسات المساعدة الدولية والأميركية.

وهكذا، فالدخول التركي المتسرع يخدم القضية الفلسطينية، من حيث إثارة الاهتمام الدولي بها. لكن سوف ينعكس إقليميا بمزيد من الفوضى والمنافسة المخيفة في المشرق. هذه الفوضى قد تدفع عاجلا أو آجلا، إلى مواجهة ساخنة في لعبة الأمم: حرب إسرائيلية في سورية ولبنان، يشنها الحلف الجهنمي التوراتي / الصهيوني في حكومة نتنياهو والجيش الذي تشتد عليه قبضة أبناء المستوطنات. حرب تنعكس بدمار هائل في البلدين. ولا تنجو منه إسرائيل.

لتجنب تورط إيران في حرب محتملة (إرسال قوات إيرانية عبر العراق) أو دفع قوات تركية إلى ساحة الحرب في سورية، يتعيَّن على أميركا أوباما التدخل. في هذه الحالة، يبقى السؤال واردا: هل تستطيع أميركا وأوروبا وقف الحرب، بقرار دولي، يلجم إسرائيل وتركيا وإيران. ويعيد الاستقرار الذي فرضه، يوما، النظام العربي. استقرار مصحوب بانفتاح سياسي يواكب الاقتصادي؟.