عندما يضعف الخوف الولاء للوطن!

TT

في حلقة من برنامجها الحواري الشهير «كروس فاير» Crossfire، استضافت قناة «سي إن إن» الأميركية سفيرا لبلد عربي كبير في واشنطن، كان يتناوب الحوار مع السفير كل من الصحافي الأميركي بات بوكانن، والصحافي جيمس مارفيل.

كان الحوار حادا، صاخبا، والسفير العربي يتحدث بما لا يعقل، يكابر في ما هو موثق من الأحداث، كأن من حوله في غفلة لا يحيطون بما يجري في بلاده من أمور اهتزت لها مراجع الحكم العليا، في الشرق والغرب، معا.

ولما كان من مكونات ذلك الحوار أن يعمد الصحافيان، بعد انتهاء اللقاء، إلى تقييم لما سمعوه من الضيف المحاور، فقد سأل الصحافي بوكانن زميله الصحافي مارفيل عن رأيه في ما أتى عليه السفير فقال: «لقد قابلت في حياتي كثيرا من الكذابين، إلا أنني لم أقابل إنسانا أكثر كذبا من هذا السفير!».

كان في هذا التطاول قذف جارح ومهين يلاحق عليه لدى القضاء، إلا أن الصحافي الأميركي كان من الحنق، وشدة الغيظ، أن انفلت لسانه بما يجرح ويعيب على مشهد، ومسمع من الملايين.

شعرت، وأنا سفير عربي في باريس، يشاهد وقائع ذلك الحوار، بالمهانة تجرحني، وأنا أرى سفيرا عربيا في عاصمة كبيرة يتعرض لموقف جارح مذل!

كان يبدو ذلك السفير، في حواره مع الصحافيين، وكأنه يدافع، مقهورا، عن نظام الحكم على حساب الولاء للوطن، ليس عقوقا بوطنه، بل فزعا من سيد النظام، وامتثالا لأوامره. كان يعلم أن أي خروج عما يوعز به إليه ينتهي بطرده، إن لم ينته بهلاكه! كان السفير المثقف يعلم في قرارة نفسه أنه يكابر، وأن في دفوعه مسخا للحقائق، وأن العالم يعرف الحقيقة في ما يقول. إلا أنه كان، في موقفه هذا، صوتا لسيده، ونكرانا لذاته، وقبولا صامتا بالمعاناة، معاناة المثقف الذي يرغم على مواقف تهدم كل ما بنيت عليه حياته من قناعات.

عندما أجمع العالم على تحرير الكويت من غزو العراق، سلما أو حربا، ورابطت الحشود العسكرية الكبيرة على مشارف الكويت، كان سفراء العراق في دول غربية كبرى، على يقين أن ليس في موقف هذه الدول ابتزاز سياسي، أو محاولة يائسة، أو ضغط مخادع لإرغام الرئيس صدام حسين على الانسحاب من الكويت. كان أولئك السفراء يعلمون أن تلك الدول الغربية الكبرى محكومة برأي عام لا يغفر لحكوماته الاندفاع في خطوة عبثية غير جادة، وأن الضربة قادمة، وأنها ستكون ضربة مدمرة، يدفع العراق، الوطن والشعب، ثمنها فادحا، وأن الولاء للوطن يحتم عليهم مفاتحة الرئيس بهذه الحقيقة، والإصرار على تحذيره وإنذاره كي لا تحول كبرياء (العشائري) لدى الرئيس دون رؤية الوجه الكالح المخيف لعناده! إلا أن خوف أولئك السفراء من غضب الرئيس - ويا له من غضب لا يرحم! - قد طغى على شعور الولاء للوطن، هذا إن لم يكونوا قد زينوا له، كارهين، أوهامه بأنه لن يجرؤ أحد على مهاجمة العراق. وبذلك يكونون أسوأ الشركاء في صنع تلك النازلة المدمرة!

كان أمام الرئيس خياران: أن تدمر كبرياؤه أو أن يدمر العراق. إذا دمر العراق يعاد بناؤه! أما كبرياء الرجال، فلا ينفع فيها، بعد تدميرها، بناء!

إذن، فليدمر العراق!.. ولتسلم الكبرياء!

وحلت النازلة بالعراق، وكانت أشد عنفا من الزلازل والبراكين. وانزوى أولئك السفراء المساكين، كل في ركن قصي، ينتحبون، في الخفاء، على وطن أحبوه، وخذلوه بعد أن جردهم الخوف من القدرة على حمايته!

ربما كانت هذه الحالة أشد حالات الخوف صمتا على حساب الولاء للوطن. وهي ظاهرة لا تفرزها إلا أجواء الحكم التسلطي، البطاش الذي اعتاد فيه سيده أن يأمر فيطاع ليجرد العقلاء، والمخلصين، خوفا، من مواقف الولاء للوطن.

هناك مواقف أخرى من مواقف الصمت على حساب الولاء للوطن يفرزها خوف يعاب عليه أنه تخاذل لا مبرر فيه، وضعف في الشخصية، ووهم يربك صاحبه.

حدثني دبلوماسي عربي - رحمه الله - أن صحيفة تصدر في بلد ديمقراطي الحكم نشرت مقالا أثار غضب رئيس دولة عربية فأبرق إلى سفيره بأن يقابل فورا رئيس الدولة المعتمد لديها ويطلب إليه إقفال الجريدة وسجن كاتب المقال. وإذا لم يستجب لهذا الطلب فعلى السفير أن يقفل السفارة ويعود مع جميع الموظفين إلى بلدهم!

كان السفير يعلم أن رئيس ذلك البلد الديمقراطي الحكم لا يملك حق مساءلة الصحيفة بإقفالها وسجن كاتبها. وأن طلبا كهذا سيضع بلاد السفير ورئيس دولة السفير في موقف حرج، بل قد يسيء لسمعتها إساءة بالغة. إلا أن السفير خشي إبلاغ رئيس دولته بهذه الحقيقة، كما تقضي بذلك أمانة المهمة الموكولة إليه، خوفا من أن يتهمه رئيس دولته بالتخاذل، والعجز، عن الدفاع عن وطنه وعن رئيسه.

ولدى مقابلة السفير لرئيس الدولة المعتمد إليها، استنكر الرئيس هذه الرسالة وقال للسفير مندهشا: «ماذا تعتقدون؟! هل تظنون أني سلطان في بلدي»!

بادر رئيس الدولة هذا للاتصال برئيس دولة السفير لاحتواء الموقف، ولم تقفل الجريدة ولم يسجن كاتب المقال!

هاتان حالتان من حالات الصمت إخلالا بأمانة الولاء للوطن. الحالة الأولى في غنى عن مزيد من التعليق، والحالة الثانية تعكس موقفا من مواقف الصمت الذي يستوجب المساءلة لأمر فيه تخاذل لا مبرر فيه حول قضية تلامس سمعة الوطن، وسيد الوطن.

إن مواقف الحذر والتردد في مفاتحة المسؤول العربي الكبير لرئيس دولته هي من قناعات كبار الموظفين العرب بسلامة هذا الموقف، تجنبا لما قد تأتي به المفاتحة من ردود فعل خلافا لما قد تشتهيه النفوس.

لقد ظلت هذه الحقيقة في مفاهيم الحكم العربي وقناعاته واحدة من مصادر الخلل في التعاطي بين الرئيس وكبار معاونيه. فليس أكثر إيذاء للمصلحة العامة من تغليب الصمت على الكلام في أمر يعلم المسؤول العربي أن الحديث الواضح الصريح فيه أمانة تعلو على كل موجبات خوف يولده وهم، وتولده وساوس من انعدام الثقة في النفس، والاحتماء خلف مواقف السلامة!

ولكم انفرد حكام عرب بقرارات مصيرية، لم يجرؤ أحد ممن كانوا حولهم على التحذير من مواطن الخطر في تلك القرارات، فكان ما كان!

ولكم أرهق الشعور بالندم وطنيين مخلصين آثروا الصمت في أمور لا توجب الصمت بل توجب المقارعة في الرأي حتى الاشتباك!

وثقافة الصمت هذه تحددها عوامل عصية على النفس. فهي، حقا، عوامل، لا يقوى على مغالبتها إلا من كان ولاؤه لوطنه استجابة صادقة وأمانة للقسم الذي أقسم عليه.

ومن هذه العوامل:

1) إن رؤساء الدول العربية، بلا استثناء، هم الذين يختارون الوزراء والسفراء وكبار موظفي الدولة. وهم الذين يعفونهم من مناصبهم إذا رأوا موجبا لذلك. وهذه الحقيقة تجعل الوزير أو الموظف الكبير في حال من الحذر الدائم، والحرص على الإحاطة بتوجهات رئيس الدولة، ما يرضيه، وما لا يرضيه، والإحجام عما قد لا يرتاح إليه لتجيء مداخلات الوزير منسجمة مع هذه الحقيقة.

2) إن المناصب الكبيرة في المجتمعات العربية أمنية يتطلع إليها جميع المثقفين القادرين. فهي مصدر للجاه، والعز، والنفوذ، والتألق الأسري والاجتماعي، ومطلب تدور حوله أحلام الطامحين. ولا يلام أحد في حرصه على خير كهذا، ومن أجل الاحتفاظ به يهون الكثير من الاعتبارات.

كما أن فقدان المنصب، في المجتمعات العربية أيضا، يدفع بالكثيرين ممن كانوا يتقربون إليه إلى الانفضاض من حوله. وهذه الظاهرة هي في التركيبة النفسية للإنسان العربي. يؤخذ بالنفوذ، ويركض خلف النافذين!

وفي الغرب يظل المنصب الوزاري خدمة عامة، وقد يعين الوزير، وتنتهي ولايته الوزارية، فلا يعرفه إلا أهله والأقربون.. فلا نفوذ ولا جاه، ولا ألق إعلاميا.

3) إن المناصب الكبيرة في العالم العربي لا تحاط بضمانات قانونية تحميها من القرارات التعسفية، فقد يعفى المسؤول الكبير من منصبه، ولا يجد في اللجوء إلى القضاء الإداري وسيلة لحمايته، ورد الاعتبار إليه، إلا ما كان استثناء من ذلك.

في عام 1990 اختلف وزير الدفاع الفرنسي السيد بيير شوفينمان مع رئيس الجمهورية السيد فرانسوا ميتران، حين عارض وزير الدفاع قرار فرنسا بالاشتراك في حرب تحرير الكويت، واستقال من منصبه، معارضة لموقف بلاده. لم يختف الوزير عن الحياة السياسية، ولم ينطفئ تألقه الحزبي، بل عاد بعد عدة أعوام وزيرا للداخلية في حكومة اشتراكية لاحقة!

هذه الاعتبارات، وغيرها، هي التي تحكم مواقف الموظف العربي الكبير من مراجع الحكم العليا في بلده، وتحول، غالبا، دون إقدامه على مفاتحة رئيسه برأي يعتقد أن فيه نفعا للوطن.

في البلاد ذات الأنظمة الديمقراطية تختار الأحزاب السياسية الفائزة في الانتخابات التشريعية أفضل رجالها فتعهد إليهم بالمناصب القيادية حتى يكون أداؤهم المتميز في خدمة البلاد عونا لهذه الأحزاب في العودة للحكم مرة ثانية في الانتخابات التشريعية القادمة. والموظف الكبير، هنا، يظل في مأمن من أي قرار تعسفي. فالذي أتى به للمنصب هو الحزب الذي ينتمي إليه، تأسيسا على كفاءته، وملاءمته للمنصب الذي يعهد به إليه. فهو، إذن، في أدائه لعمله، لا ينام عن رأي تمليه عليه أمانة الإخلاص للوطن، فله مطلق الحرية في أن يفاتح به من يشاء، بعيدا عن نوازع الخوف مما قد يقال أو لا يقال.

وفي العالم العربي قد يبلغ الأمر بكبار المسؤولين حد الوهم في خوفهم من عرض آرائهم على القادة الكبار. فهم مسكونون، دائما، بهاجس السؤال الحائر: هل أتحدث بما لدي، أم لا أتحدث فيه؟ وكيف سيكون تقبل الرئيس، هل سيرتاح إليه أم أنه سينال من نظرة الرئيس إلي؟

حشد من التساؤلات قد تعذب الموظف الكبير قبل أن يقدم، أو لا يقدم، على طرح ما لديه.

كان الحكم، في الماضي، قائما على انفراد الحاكم بإدارة شؤون البلاد. وكانت قرارات الدولة تعتمد في جو من الهمس والكتمان كأنها في حجب مغلقة، بعيدة عن عيون الصحافة، بعيدة عن علم المواطنين، إلا ما أذنت بعلمه المراجع العليا في الدولة. كانت الأعباء الداخلية والخارجية متواضعة، لا تثقل بحملها على الحاكم ومن حوله. كما كانت الهموم في أدنى مستوياتها.

لم تعد الحال، كما كانت عليه. فالحكومات، في جميع البلاد العربية، تجد نفسها، اليوم، وجها لوجه، مع قضايا سياسية، واقتصادية، واجتماعية توجب الانفتاح بالرأي، وإيضاحه، والدفاع عنه، لا سيما إذا جاء ذلك الرأي من موظف كبير يشارك في حمل المسؤولية وصاحب اختصاص فيه. بل يجب حثه على مبادرات كهذه، ونزع الشعور بالخوف من نفسه، فقد ازداد وعي الشعوب، وتعززت مطالباتها بالمزيد من الشفافية، في كل ما يتصل بالأساسيات من حياتها.

كما جاءت وسائل الاتصال الحديثة، المذهلة في اختراقها للمنافذ المغلقة، لتجعل من جميع قرارات الدولة ومشاريعها موضوعا للحوار بين المواطنين حتى ليكاد المواطن يصبح شريكا للحكومات في همومها واهتماماتها. الأمر الذي يضع الوزير المختص وجها لوجه أمام رأي عام يرصد أعماله، ويجعله، من حيث لا يشعر، عرضة لتقييم أدائه.

إن مبادرة الموظف الكبير لمفاتحة رئيس دولته بما يرى فيه نفعا للوطن هي استجابة للقسم الذي التزم به المسؤول الكبير بأن يؤدي واجبه بالصدق والأمانة والإخلاص. ويا له من قسم يثقل الضمير!

ولا أخال الحاكم العادل الحليم إلا أن يساند مواقف الصدق من رجال اختارهم، وأودعهم ثقته وأمانيه، ولا أخال المسؤول الكبير إلا ساعيا في الخير لوطنه. وأيا كان الرأي الذي يأتي به المسؤول الكبير فإنه يظل رأيا قبوله مرهون باستحسان القيادة له، وموافقتها عليه.

* وزير الإعلام ووزير

الصحة السعودي الأسبق والأمين العام السابق لمجلس

التعاون لدول الخليج العربية