الولاء لإسرائيل

TT

«كان سيصبح نفاقا بالنسبة لي لو لم أنتقد انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي، فقط لأنني يهودي».. هذا هو ما قاله القاضي ريتشارد غولدستون في دفاعه عن نفسه أمام الهجمة الشرسة التي تعرض لها من مواطنيه قادة يهود جنوب أفريقيا، ومن إسرائيل، بسبب تقريره عن حرب غزة.

قارن هذا بما تعرض له رام إيمانويل كبير موظفي البيت الأبيض وأحد أقرب الشخصيات إلى أذن الرئيس الأميركي باراك أوباما، خلال زيارته لإسرائيل أخيرا بهدف الاحتفال أيضا بمناسبة بلوغ ابنه. فقد تعرض إيمانويل إلى حملة عنيفة من اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي اتهمه بخيانة شعبه اليهودي «وبالعمل كطابور خامس في البيت الأبيض ضد إسرائيل والشعب اليهودي».

وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد شارك في السابق في الهجوم على رام إيمانويل واتهمه بخيانة مصالح الشعب اليهودي، وذلك في إطار تحميله المسؤولية عن تغيير لهجة إدارة أوباما تجاه إسرائيل، أو على الأقل عدم تأثيره على أوباما بما يمنع أي ضغط من قبل البيت الأبيض على إسرائيل في موضوع محادثات السلام والمستوطنات.

الهجوم على إيمانويل وعلى غولدستون يعكس قضية مهمة وجدلا مستمرا منذ فترة طويلة حول ولاء يهود أميركا بل واليهود حول العالم، هل يكون لدولهم التي يحملون جنسياتها ويقيمون فيها، أم لإسرائيل؟ وهل يحق لهؤلاء الاختلاف مع سياسة إسرائيل والجهر بانتقاداتهم لها، أم يتبعون سياسة عمياء في تأييدهم لها بغض النظر عن آرائهم الشخصية، وحتى لو كانت سياساتها تتعارض مع مصالح دولهم؟

بالنسبة ليهود أميركا تحديدا، تشكل هذه القضية محنة حقيقية مثلما أنها تضعهم في اختبار أمام مجتمعهم الأميركي، خصوصا أنهم يشكلون أكبر تجمع يهودي خارج إسرائيل (عددهم 6 ملايين و400 ألف عام 2008 وفقا لمكتب الإحصاء الأميركي) ويتجاوز عددهم عدد اليهود في إسرائيل (5 ملايين و600 ألف وفقا لإحصائيات عام 2009). ورغم الدور الذي قام به يهود أميركا في دعم ولادة دولة إسرائيل وفي مدها بالمال والتأييد السياسي والإعلامي عبر أقوى مجموعات ضغط في أقوى بلد في العالم، إلى درجة يقال معها إن يهود أميركا هم الضامن الحقيقي لأمن إسرائيل، فإن الهوة التي ظهرت في الثمانينات بين غالبية هؤلاء وإسرائيل، عادت تظهر بشكل أوضح مؤخرا. يتمثل ذلك في الهجوم العنيف الذي تعرض له تنظيم «جيه ستريت» في أميركا رغم أن غالبيته يهودية، لأنه يؤيد إعادة إطلاق عملية السلام في الشرق الأوسط على أساس مبدأ الدولتين ويتحرك بفاعلية في أوساط صناعة القرار في واشنطن. كما يتمثل في الهجوم الذي يشن من قبل المتشددين على يهود الخارج عموما الذين يتجرأون على انتقاد إسرائيل، إلى حد وصفهم بأنهم «كارهون ليهوديتهم».

المفارقة في كل ذلك أن إسرائيل تطالب الفلسطينيين الذين يحملون جنسيتها (عرب إسرائيل) بأن يكون ولاؤهم لها وليس لبني جلدتهم وأن ينشدوا نشيدها الوطني، بينما تريد من يهود أميركا والخارج أن يكون ولاؤهم لها وليس لبلدانهم. كما أنها تحاكم حاليا ناشطا من عرب إسرائيل بتهمة التجسس لحزب الله بينما تضغط منذ منتصف الثمانينات على كل رؤساء أميركا المتعاقبين لإطلاق سراح جوناثان بولارد الذي يقضي عقوبة السجن في الولايات المتحدة بعد إدانته بالتجسس على بلده أميركا لصالح إسرائيل.

إن الجدل حول يهود الخارج ومسألة الولاء، ليس جديدا ولن ينتهي في مستقبل منظور، لكن ما يهمنا في الموضوع هو أين يقف ضمير هؤلاء، وهل يمكن رؤيتهم يشكلون قوة ضغط حقيقية من أجل السلام خصوصا أنهم، أو غالبيتهم، يستطيعون رؤية الأوضاع من منظور أوسع بعيدا عن عقلية الحصار الإسرائيلية، ولديهم القدرة على دفع إسرائيل باتجاه السلام، والتأثير على دوائر صنع القرار في واشنطن (يوجد في الكونغرس الأميركي 45 عضوا يهوديا بين مجلسي النواب والشيوخ إضافة إلى نفوذ كبير في دوائر المال والإعلام). فاستنادا إلى استطلاعات للرأي وسط يهود أميركا نشرت سابقا في بعض الدوريات فإن 79% منهم يؤيدون مواصلة مفاوضات السلام وتجميد البناء الاستيطاني، بل إن 84% منهم يرون أن على الإدارة الأميركية ممارسة ضغوط لإحياء عملية السلام. وقبل زيارة نتنياهو التي كانت مقررة إلى واشنطن أخيرا وألغيت بسبب تداعيات الهجوم على «أسطول الحرية»، كانت هناك تحركات في الكونغرس مدعومة من تنظيم «جيه ستريت» لجمع توقيعات على رسالة تأييد لجهود إدارة أوباما في إحياء المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهي المفاوضات التي يسعى اليمين الإسرائيلي جاهدا لعرقلتها. لكن الصورة ليست بهذا الوضوح، لأن يهود أميركا شكلوا دائما أكبر داعم لإسرائيل ولآلتها الحربية.

وفي هذا الوقت الذي تترنح فيه جهود السلام، هل يكون صوت يهود الخارج، ويهود أميركا على وجه الخصوص، مثل صوت القاضي غولدستون، أم أن «معركة الولاء» ستجعلهم يختارون السكوت والتراجع تحت ضغط انتقادات اليمين المتطرف، حتى ولو أدى ذلك إلى استمرار إسرائيل في طريق الحروب والدمار؟