نار تحت الرماد

TT

كما توقع بعض المراقبين، مرت ذكرى الانتخابات الإيرانية دون قيام مظاهرات كبيرة أو أي أحداث بارزة، وباستثناء بضعة اعتقالات في صفوف الطلبة واعتداء منفرد بحق مهدي كروبي - مرشح الرئاسة السابق -، فإن النظام الإيراني قد أثبت بأنه سيد الموقف، حتى إن تراجع زعماء الحركة الخضراء المعارضة عن تنظيم المظاهرات قبل أيام من حلول الذكرى فسّر على أنه عجز حقيقي في قدرة المعارضة على تسيير مظاهرات معارضة بحجم تلك التي خرجت قبل عام، وأن عملية الاعتذار خوفا من التدابير الأمنية التي يهدد بها النظام واقعية بسبب انحسار أعداد المعارضين عما كانوا عليه.

البعض يرجع أسباب تراجع الحركة الخضراء إلى نجاح السلطات الإيرانية لا سيما عبر دعم الحرس الثوري وميليشيات الباسيج لإعادة انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد بالقوة، وأن سلسلة المحاكمات وأحكام السجن والإعدام التي مورست بحق مؤيدي المعارضة في ظل عجز قياداتها من أمثال رفسنجاني، وموسوي، وخاتمي، وكروبي تثبت أن المعارضة للنظام القائم لا تزال ضعيفة وعاجزة عن تغيير الأوضاع في الساحة السياسية الإيرانية. في هذا السياق، يقول المحلل السياسي رضا أسفيندياري: «إنه وعلى الرغم من الاتهامات بتزوير الانتخابات فإن الدلائل تشير إلى كون نتائج الانتخابات أصلية، وأن الأغلبية في إيران تدعم الحكومة، وأن فشل الحركة الخضراء في الانتشار مرده إلى عجزها عن الخروج عن دائرة النخبة السياسية وقاعدتها من الطبقة الوسطى».

بيد أن هناك من يرى أن جو التهدئة الذي نراه يخفي تحته قدرا كبيرا من الغضب والاحتقان الداخلي، أو كما عبر عنه تقرير نشرته «نيويورك تايمز» (بتاريخ 12 يونيو) بـ«نار تحت الرماد»، حيث ذكر التقرير أن المرشد الأعلى آية الله خامنئي والرئيس أحمدي نجاد ربما يظهران كمنتصرين في هذه المرحلة، ولكن الكثيرين في إيران يشعرون اليوم بأن الحركة الخضراء رغم تراجعها الظاهري فإن المعارضة الخفية خارج إطار مظلة الحركة باتت أكبر وأشد اختلافا مع النظام السياسي القائم. وإذا صح هذا التقدير فإن المؤسسة السياسية بشقّيها المحافظ والإصلاحي قد خسرت تحدي التغيير نتيجة لخلافها حول السلطة، والثورة التي كانت من أجل الشعب قد باتت نظاما يحكم بالقوة شعبا شابا ولد أبناؤه بعد الثورة.

في الوقت الذي يشعر فيه المحافظون الجدد في طهران بالانتصار على المعارضة في الداخل، فإن إيران باتت تعاني عزلة دولية تشبه إلى حد كبير سنوات ما بعد الثورة، فقد مررت الدول الكبرى حزمة عقوبات رابعة بمشاركة أصدقاء إيران كروسيا والصين. وفي حين تبدو الحكومة الإيرانية غير مكترثة لتلك الخسارة الاستراتيجية، فإن البلد قد يواجه - حسب رأي بعض المراقبين - تحديات اقتصادية كبيرة على الصعيد الداخلي.

خلال عامي 2007 و2008 حققت إيران دخلا كبيرا من وراء عائداتها البترولية، وقد ساعدت أسعار البترول التي بلغت 150 دولارا الحكومة المركزية على تغطية إنفاقاتها الباهظة لمشروعات الدعم الخاصة بالفقراء، الذين هم في الحقيقة القاعدة الشعبية للرئيس أحمدي نجاد. بيد أن الأهم هو أن إيران تواجه حصارا اقتصاديا قد يضر بتجارتها الخارجية. ففي عام 2008 بلغت التجارة بين طهران وأكبر خمسة بلدان آسيوية متعاملة معها قرابة المليار دولار، وكان لصادرات إيران لدول مثل الإمارات العربية المتحدة، والعراق، وأفغانستان النصيب الأكبر، ولكن تلك التجارة مهددة بالتراجع إلى مستويات عام 2001، والتي لم تتعد 500 مليون دولار، في حال طبقت العقوبات بشكل أكثر صرامة مما كانت عليه في السابق.

في كتابه الهام «صعود الطبقة الوسطى الجديدة في العالم الإسلامي» يجادل والي نصر (2009) بأن «المعركة الكبرى لروح لإيران - ومستقبل المنطقة بأسرها - لن يكون حول الدين أو الطائفة، بل حول حرية التجارة والرأسمال»، ولهذا فإن العقوبات الاقتصادية بحق طهران سيكون لها نتائج كبيرة. حاليا، يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لإيران مستوى مماثل لولاية أميركية مثل ماسوشتس، وهي تنفق ما مقداره 6 مليارات دولار على تسلحها العسكري، وهو رقم لا يبلغ نصف ما تنفقه دول مثل إسرائيل أو تركيا، وغيرها من الدول الخليجية في المنطقة. كما يجادل الخبراء بأن وضعا اقتصاديا كهذا لا يخول إيران أن تكون دولة عظمى بالمعايير الإقليمية، فكيف بمواجهة دول كالولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي.

المحافظون الجدد في طهران يجادلون بأن الحصول على تكنولوجيا السلاح النووي - وليس بالضرورة امتلاك ترسانة من السلاح النووي - هو بالضرورة الإجابة على التهديدات الخارجية التي يواجهونها، وأن الدول الغربية وبالذات دول المنطقة ستضطر إلى تصحيح مواقفها والاعتراف بموقع إيران كدولة عظمى. صحيح أن بلوغ المقدرة النووية الحربية قد يغير من موازين القوى إقليميا، ولكن ذلك لن يغير شيئا في موازين الصراع الداخلي. يشير راي تاكيه (حراس الثورة 2009) إلى أن سياسة الملالي اليمينية المتشددة بالتحالف مع العسكر ربما ضمنت لهم التفوق في صراعهم الإقليمي مع المجتمع الدولي، ولكن تحديات الداخل ربما تكون التحدي الأكبر إزاء استمرارهم في السلطة، وفي النهاية كان الفشل في حل مشكلات الداخل هو السبب الرئيسي في فشل دول قوية كالاتحاد السوفياتي، أو النظام العنصري في جنوب أفريقيا.

قد يكون المحافظون الجدد نجحوا في هذه الجولة، ولكن وكما يقول المثل الفارسي: «في العفو لذة ليست في الانتقام»، وهو درس من الواضح أنهم لا يدركونه، فإيران لن تعود كما كانت في السابق، فحمى الغضب والانتقام ما تزال مستعرة تحت الرماد.