هل ترفع حماس الحصار عن غزة؟!

TT

أخيرا انتبه المجتمع الدولي إلى مأساة غزة وحصارها المستمر منذ حدث الانقلاب «الحمساوي» قبل ثلاثة أعوام؛ ولم تكن الحرب الإسرائيلية على القطاع قبل عام ونصف العام بكافية لكي تحل أزمة مستحكمة، ولكن «أسطول الحرية» وتسعة من القتلى الأتراك فتحوا الملف كله على مصراعيه. أصول المسألة كلها تعود إلى احتلال طال، وأخذ فصولا متعددة منذ بداية القضية الفلسطينية في عام 1948، وكان المشهد الدائم هو تراجع حقوق الشعب الفلسطيني عاما بعد آخر، وبعد احتلال جزئي للأرض صار الاحتلال كاملا. وبعد أن كان الشعب يسعى إلى حق تقرير المصير، إذا به يفقد حقوق العيش والإنسانية يوما بعد يوم. وحدث ذلك في الوقت الذي قامت فيه دولة إسرائيل، وأصبحت من القوة العسكرية بحيث تبتلع باقي فلسطين، وفي النهاية تحصل على حقوق استثنائية من المجتمع الدولي تتيح لها امتلاك السلاح النووي، وتمنحها القدرة على استخدام العنف متى شاءت، وكيف شاءت، بينما يدير العالم وجهه إلى الناحية الأخرى، ويفتح أبواب خزائنه بالتكنولوجيا والأسواق إلى الدرجة التي تصبح فيها الدولة العبرية الأكثر قوة ومنعة اقتصاديا وعسكريا.

أسباب ذلك وكيف حدث ليس موضوعنا هنا، فالقصة طويلة والألم حار والحسرة عميقة، ولكن جوهر الموضوع كله كان قدرة فائقة على إدارة صراع حاد من خلال زيادة القوة والطاقة بأشكالها المختلفة في مقابل ضعف هائل لا يجد معضلة في العمل على زيادة الضعف والوهن. والمشهد الأخير وحده يكفي لكي يحكي القصة من أولها، بعد أن حصل الفلسطينيون لأول مرة في التاريخ على أرض وسلطة تخصهم؛ وصحيح أن كتليهما، الأرض والسلطة، كانت في قبضة الاحتلال الإسرائيلي، ولكن فلسطين بات لها علم مرفوع على مؤسسات، ومقعد مراقب في الأمم المتحدة، ومكان بارز في المحافل الدولية، وتدفق للمعونات والموارد لم يتوفر لحركة من حركات التحرر الوطني في التاريخ. ولوهلة بدا أن مسألة قيام الدولة الفلسطينية لم تعد موضع شك، ولكن السؤال كان حول التوقيت، ولكن فرصة التسعينات كلها ضاعت، من بعدها بات الأمر هو أن تعود الأيام إلى ما كانت عليه في مسيرة أوسلو، ولكن ما ضاع غالبا لا يعود مرة أخرى إلا بثمن فادح.

وكان الحصار الإسرائيلي على غزة جزءا من الثمن الفادح لانفصالها تحت راية حماس وسطوتها السياسية والدينية أيضا، ومن عجب أن كلا من إسرائيل وحماس، وجماعات كثيرة في الغرب لا تلتقي أبدا، حاولت أن تضع مصر في نفس الإطار. وللتاريخ فإن القاهرة مارست كثيرا من ضبط النفس وهي تشهد عمليات لتثقيب حدودها بأنفاق تهرب السلاح في الاتجاهين بين غزة وسيناء، وتتيح بناء الخلايا العسكرية التي تهدد قناة السويس، وفوق ذلك العملية الكبرى لاجتياح حدودها بغلبة سكانية. وربما كان الأصعب على السلطات المصرية التي لا تتعامل مع الإخوان المسلمين كجماعة سياسية شرعية في داخل مصر، أن تتعامل معها وقد أصبحت واقعا في غزة. وكانت الترجمة الواقعية للسياسة المصرية هي احترام القواعد الدولية التي تنظم العلاقات بين غزة وجيرانها، مع عدم السماح لها بأن تخنق القطاع أو تدمر الحياة الإنسانية فيه.

حماس وحدها، بعد إسرائيل، كان لها الدور الأكبر في فرض الحصار على أهل غزة، وبدون الدخول في مدى شرعية الانقلاب الذي قامت به في القطاع، ورفضها البات لكل مشروعات المصالحة الفلسطينية حتى تلك التي وافقت عليها، فإنها تعنتت بقوة في السماح للسلطة الفلسطينية بالبقاء على معابر القطاع التي يقع ستة منها في يد إسرائيل، وواحد فقط في اتجاه مصر عند رفح. وحتى عندما طرحت مصر أن يكون الجنود الفلسطينيون عند المعابر والممثلون للسلطة الفلسطينية من أهل غزة الواقعين تحت القبضة الحديدية لمنظمة حماس وحكومتها، فإن حلول حماس محل السلطة عند المعابر كان أكثر قوة من رفع الحصار كله على غزة.

ولا أدري ما الذي يدور في أذهان جماعة حماس، فقد كان محور النضال الفلسطيني طوال ستة عقود هو طرح القضية الفلسطينية على أنها ليست قضية لاجئين على وجه الإطلاق، وإنما قضية شعب له حق تقرير المصير؛ وعندما جاء العون والمعونات كان ذلك من أجل وضع قواعد ومؤسسات الدولة القادمة. ولكن ما نجحت فيه حماس حتى الآن هو أن القضية عادت مرة أخرى في نظر الرأي العام العالمي كله لكي تكون قضية غوث ولاجئين وأصحاب مأساة إنسانية ليس مطلوبا إزاءها إلا إرسال أساطيل للإنقاذ. وهكذا حققت إسرائيل ما تريده، وبامتياز، وبعد أيام قليلة من التعاطف الدولي مع الفلسطينيين، كان تعريف القضية الفلسطينية قد تغير تماما، ومع تغيير التعريف تغيرت بوصلة التعاطف، والتبست الأمور، وتم استدراج مصر وتركيا إلى ساحات من اللوم والغمز واللمز لم يكن لأي منهما فيها قصد وهدف، اللهم إلا إنقاذ فلسطين من الهوة التي وصلت إليها.

القضية هكذا باتت واضحة، وبدون ضغوط عربية ودولية على إسرائيل، ليس فقط لكي ترفع الحصار عن غزة، ولكن أيضا لكي تفتح الأبواب من أجل بعث المؤسسات الفلسطينية من جديد، فإن جولة جديدة من الصراع سوف تكون على الأبواب. ولا أظن أن مثل هذه الضغوط سوف تكون فاعلة ما لم تتخذ حماس قرارا استراتيجيا كبيرا، بين رغبتها في اختطاف السلطة الفلسطينية دون شرعية من انتخابات أو تمثيل، ومستقبل القضية الفلسطينية كلها. مثل هذا القرار الاستراتيجي صعب، وكانت صعوبته والعجز عن الإجابة البناءة عليه هي التي أدت إلى التدهور الذي حدث للقضية كلها عبر سنوات وأجيال متتابعة، وللأسف كانت الخيارات من منظمات وجماعات وحركات دائما ما يجانبها الصواب، وفيها من الانحراف والحماقة أحيانا ما يقلص الحلفاء ويوسع دائرة الأعداء. وكان الرهان خاطئا طوال الوقت أن العالم لن يستطيع تجاهل «الرقم الصعب» للقضية الفلسطينية، وقد كانت القضية بالفعل رقما صعبا، ولكن ما لم يدركه ساسة فلسطينيون هو أن العالم ممتلئ حتى آخره بالأرقام الصعبة، والقضايا الملحة، وعلى مدى عقود طويلة احترقت الصومال وأفغانستان، وبلاد وقضايا صارت مع الوقت دخانا ونارا. وفي وقت من الأوقات كان الضجيج الإعلامي يؤدي إلى تذكر القضايا، ولكن مع كثرة الضجيج أصبحت المسائل كلها معتادة، ومع الاعتياد لا يبقى من أعظم وأنبل القضايا إلا تنظيم عمليات الإغاثة. فهل ذلك هو ما تريده حماس، وما ترغب فيه الجامعة العربية، وما يطمح إليه الشعب الفلسطيني؟