معركة البرادعي

TT

أتابع مسيرة الدكتور محمد البرادعي منذ عودته إلى مصر بأكبر قدر ممكن. أقرأ مقابلاته وتصريحاته وأسمعها على التلفزيونات الهادئة. وأفعل ذلك بدافعين، أو رغبتين، أو هدفين، أو هاجسين. الأول، مصر. لا يمكن، لأي عاقل عربي، أن ينظر إلى شؤون وقضايا مصر، من دون أن يدرك أهمية موقعها في أمة كانت تقودها القاهرة إلى الوحدة العربية فأصبحت تقودها أنقرة إلى فلسطين.

الثاني، تقدير شديد لميزة نادرة في السياسيين العرب، يتمتع بها محمد البرادعي، هي التواضع الحقيقي. أي تواضع الكبار. وقد تعلمت ألا أطمئن إلا إلى المتواضعين في الناس، وأن الغرور للثيران. لا يمكن أن تعرف متى يحلو للثور أن ينطح.

استخلصت من متابعة البرادعي منذ لحظة وصوله إلى مطار القاهرة، أن ثمة فارقا هائلا بين الرجل وبين داعميه والمتلحفين بمزاياه وكفاءاته. هو يريد الوصول من خلال الدستور والقانون والسلوك المدني الديمقراطي، وهم يريدونه أن يصل بأي طريقة وبأي وسيلة، وكلها مخالفة للدستور والمسلك المدني. وبت أشك في أن الرجل يريد الرئاسة حقا. ليس لأنه يدرك مدى صعوبة ذلك في الوضع السياسي القائم، بل لأنه رجل نخبوي غير ديماغوجي وغير جماهيري، ولا يريد أن يكون في النتيجة أسير الجماهيريين والشعوبيين الذين يتولون إيصاله. لا أعتقد أنه يريد أكثر من أن يقول رأيه في الإصلاحات التي يحلم بها وفي الطريق الذي يراه ملائما لبلد على شرفة مسائل كثيرة، أخطرها النيل.

ويردد كثيرون مع هيرودوتس أن مصر هبة النيل. ولو عاش أبو المؤرخين في عصر قياس معدلات الأمطار لقال إن النيل رئتا مصر وشرايينها وعنقها. فلا مصر من دون النيل. وقد قرأت لعالم زراعي من جامعة القاهرة أن المعدل السنوي للأمطار في مصر 15 ميلليمترا. ولكي تعرف جنابك ماذا يعني ذلك، اعلم أن معدل الأمطار في بلد من 10 آلاف كيلومتر مربع مثل لبنان، هو ما فوق 700 ملم. تخيل 80 مليون مصري من دون نيل، أو بنيل شحيح.

وجدت المعارضة في الدكتور البرادعي شخصية مثالية، لأنها تفتقر إلى مرشح مثله. لكن الواضح أنه لا يلتقي مع الكثير من أجنحتها ولا مع العديد من خطاباتها السياسية. وربما كان الحل الأمثل أن يستفيد النظام من حكمة وخبرة وسمعة الدكتور البرادعي. فهو ليس رجل نوويات وقنابل بل رجل قانون ودبلوماسية وآداب عالية.