شتان!

TT

تحدثت في أحد الاجتماعات عن سعي إيران المتواصل للوصول إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط ودخولها في حروب ومنازعات مع كل القوى التي وقفت في طريقها، وعلى رأسها الإمبراطورية العثمانية.

أنهيت المحاضرة ثم ذهبت لسماع الحفلة الموسيقية التي نظمها اد امري في مسرح الكوكبت بلندن تحت عنوان «أمسية في نغم الصبا». ضمت عازفين ومغنين من شتى جهات الشرق الأوسط إضافة إلى اليونان. تحدث المنظم عما عاناه الموسيقيون في إيران حين قام الشاه طحماس بذبح كل الموسيقيين، بمن فيهم الأستاذ الذي علم ابنه الموسيقى، ممن أدخلوا مقام الصبا إلى إيران. لماذا؟ لأن الصبا من تآليف العرب والعثمانيين وشاع في بلاط آل عثمان!

السياسة ودورها في الحياة الثقافية. استمعت إلى الحكاية ثم تذكرت، وأنا أستمع لقطعة من مقام الصبا، حكاية سمعتها من الموسيقار الإنجليزي أدريان بولت. قال إنه كان مكلفا بقيادة فرقة البي بي سي السيمفونية في حفلة في مدينة كفنتري أثناء الحرب. وما إن رفع عصا القيادة ليشير للفرقة بعزف السيمفونية الثالثة لبتهوفن، الموسيقار الألماني، حتى دوت صفارات الإنذار تعلن عن غارة جوية تقوم بها الطائرات الألمانية على المدينة. قال: مسكت بالعصا وتوقفت ثم خاطبت الجمهور «الألمان يقصفون المدينة. أتريدون أن تسرعوا إلى الملاجئ أم تريدون مني مواصلة الحفلة»؟ ساد سكون لبضع ثوان في القاعة، ثم انطلق أحد الحاضرين فنادى: «كلا. لا نخرج للملاجئ. ابدأ بالموسيقى وليسمع الطيارون الألمان كيف سنعزف موسيقاهم!».

عالمان وذهنيتان مختلفتان!

والكلام يجر الكلام. ففي فترة الاستراحة جلسنا في مقصف المسرح نتناول بعض الشراب فاستمعت إلى هذه الحكاية مواصلة لحكاية الموسيقار الإنجليزي أدريان بولت. الفرقة العراقية السيمفونية من أشهر الفرق الموسيقية في عالمنا العربي ولقيت حفلاتها تقديرا غير قليل في العواصم الغربية. أعادت تنظيم نفسها بعد سقوط نظام صدام حسين وشرعت في تقديم أعمالها لجمهور بغداد. لم يعجب ذلك الإرهابيين والمتطرفين والقاعديين. مسلمون يعزفون موسيقى! ويجلسون ويعزفون مع موسيقيين نصارى! وبينهم نساء غير محجبات! وموسيقى استعمارية إمبريالية صهيونية من الغرب! بادروا فوضعوا متفجرات في القاعة لمنع الحفلة وقتل المشاركين فيها.

لحسن الحظ، نجا الفنانون من الضربة، مرتبكين مذعورين. لم يعد أمامهم غير أن يؤجلوا الحفلة. ثم اجتمعوا وتدارسوا الأمر. ثم اتخذوا قرارهم. وكان أن يعطوا ردهم للإرهاب بإحياء نفس الحفلة ونفس البرنامج الموسيقي في الليلة التالية. ولم يكن جمهور بغداد أقل شجاعة وعزيمة منهم فامتلأت القاعة واستمع الجميع لبتهوفن وموتزارت وشوبرت وكل من وهبوا حياتهم للحضارة الإنسانية.

كلا! لن يموت العراق.

ولن يموت طالما بقي فيه رجال ونساء من هذا الغرار.