تيار المستقبل في مهب الأسئلة

TT

كان تيار المستقبل بحاجة لاستقالة النائب أحمد فتفت وانتقاداته الجريئة، وبحاجة أيضا إلى انتقادات النائب السابق مصطفى علوش الضمنية، وكلاهما من صقور التيار. فالخسائر، ولو المحدودة، التي مني بها «المستقبل» أثناء الانتخابات البلدية اللبنانية عموما والنيابية الفرعية التي جرت في المنية - الضنية شمال لبنان، أكدت بالأرقام أن الفورة العاطفية الجامحة التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ونصبت ولده سعد زعيما على السنة في لبنان دون منازع، ودون شروط أيضا، خفت وهجها. التململ داخل التيار، وبين أعضائه الأبرز، من المفترض أن يكون مؤشرا إيجابيا، ولحظة استنهاض مفصلية، لإعادة قراءة التجربة الحريرية منذ عام 2005 إلى اليوم، وما تواجهه من تحديات جسام بحاجة إلى إجابات إنمائية وخطط وطنية، تقنع المواطن بأن للتيار رؤية تستطيع أن تنتشل لبنان من أزماته. المطالبات العمالية، والإضرابات المتوالية، مرشحة للتصاعد. غلاء الأسعار المتوحش الذي تنهش مخالبه بقسوة في لحوم الناس، مع جمود الرواتب، وتناقص فرص العمل، وغياب المشاريع التي تؤمل اللبنانيين بانفراجات قريبة، ستضغط كل يوم أكثر، وتتحول إلى مساءلات للحكومة ورأسها الحريرية.

الانقسام الداخلي الدامي الذي لعبت على وتيرته كل الأطراف السياسية، وشغل اللبنانيين عن المطالبة بحقوقهم المعيشية، انتهى بالمصالحات، وباتت الزعامات، على اختلاف طوائفها، في مواجهة استحقاقات تهربت منها خمس سنوات، بحجج الدفاع عن مبادئ، تبين أنها أصغر من أن تستحق التضحية في سبيلها. وقد تساءل الناس في منطقة المنية، وهي معقل حريري لا مثيل له، بينما كنا نستطلع آراءهم يوم الأحد الماضي، أثناء الانتخابات النيابية الفرعية، عما تحقق من وعود التيار لهم. قالوا صراحة إن سعد الحريري في قلوبهم، لكنهم يريدون طرقات وعملا وكهرباء وماء.

استغربت أن أرى شيخا وإمام جامع سنيا، يعرف عن نفسه بأنه من حزب الله، ومرشحا عن مقعد نيابي يفاخر بأنه يناصر حزب الله، ويصفق له جمهور يلتف حوله. كان هذا مشهدا سورياليا حتى شهور خلت. فالمرشح (المقاوم) حصل على 14 ألف صوت مقابل 20 ألف صوت لمرشح تيار المستقبل الذي فاز، أي بفارق 6 آلاف صوت فقط. وهذه في حد ذاتها ظاهرة في منطقة سميت «ضاحية قريطم» لشدة ولائها لسعد الحريري، لا بل وتعصبها له. هذا لا يعني أن الشمال اللبناني بات جزءا من الضاحية الجنوبية، بل ثمة إشارات قوية إلى أن المواطنين ما عادوا يأبهون بما كان يشد في السابق عصبهم، ويستفز أصواتهم، وحميتهم.

ما يعانيه «المستقبل» في الشمال، عاش ما يشبهه حزب الله في الجنوب والبقاع أثناء الانتخابات الأخيرة، ولو بدرجة أقل، حيث إن المزاحمات المعارضة له، لم تستسلم لسلطته وتفرده، كما كان يحصل في السابق. فالخريطة العاطفية والعصبية للبنانيين، تبدلت مع التبدلات الإقليمية، وصار على كل حزب وتيار أن يستوعب الصدمة، ويعيد رسم خططه واستراتيجياته، ويتوجه للناس بما ينتظرونه من حلول ملموسة. «المقاومة» وحدها لم تعد تكفي لجلب الأصوات بكثافة ساحقة إلى صناديق الاقتراع، كما أن نداءات «الحرية» و«السيادة»، هزلت أمام الجوع والحاجة.

التحدي الذي يواجهه تيار المستقبل، يترجم استنفارا من قوى سنية مختلفة تعتقد أنها تستطيع أن ترث ما يخسره. ففي طرابلس (وهي معقل سني آخر) خاض تيار المستقبل الانتخابات البلدية، منذ ثلاثة أسابيع، بتحالف مع كل القوى السنية الأخرى الموجودة في المدينة، بلائحة كاسحة، لم تترك مجالا لأي خرق. لكن الجميع يعلم أن الحرب بين الحلفاء السنة كانت قوية ومزلزلة تحت الطاولة، ولم تبلغ نهاياتها السعيدة من دون كبح جماح الغضب والتوتر. وتفجرت الخلافات التنافسية السنية - السنية بشكل علني بعد أسبوعين فقط، في انتخابات المنية - الضنية الفرعية، يوم الأحد الماضي، بحيث رفض الوزير محمد الصفدي كما رئيس الوزراء الأسبق نجيب ميقاتي دعم مرشح تيار المستقبل. واللافت أيضا أن الجماعة الإسلامية التي أعلنت دعما علنيا للمرشح كان لها على الأرض موقف آخر، تجلى تراشقا قاسيا بالتهم بعد إقفال صناديق الاقتراع. وليس أدعى للتفكر من قول النائب أحمد فتفت بأن التيار خاض الانتخابات الفرعية مع تخلي كل حلفائه عنه ما عدا القوات اللبنانية التي خصها بالشكر.

في السياسة يتحالف الأفرقاء لمصلحة، ويختلفون لأجلها. وها هم حلفاء الأمس السنة الذين كانوا يعتبرون أن لا وجود لهم إلا تحت أجنحة «المستقبل» وفي ظله، يتجرأون على إعلان مواقفهم المخالفة له، ولو بحجة مسايرة العائلات، والحفاظ على التقاليد. وهو ما يعني أن المزاج الشعبي تغير بالفعل وعلى تيار المستقبل أن يعيد حساباته، بسرعة وجرأة، تتلاءم وقوة عصف الأسئلة التي تنهال عليه من ألسنة مناصريه.