تركيا ـ إسرائيل: إلى جانب من انحازت واشنطن؟

TT

قد تكون حالة الغليان الشعبي في تركيا هدأت بعض الشيء، لكن غضب قيادات حزب العدالة والتنمية يتزايد يوما بعد آخر أمام تجاهل تل أبيب للمطالب التركية العاجلة.. لجنة تحقيق دولية تكشف عن منفذي العملية العدوانية التي استهدفت أسطول الحرية في عرض المتوسط ومعاقبتهم، اعتذار إسرائيلي رسمي على أعلى المستويات، تعويضات عاجلة لضحايا الهجوم والمتضررين فيه وسياسة إسرائيلية جديدة تقود إلى رفع الحصار عن غزة بكافة أشكاله وأنواعه.

فإسرائيل التي حددت استراتيجية المواجهة بمطالبة تركيا تحمل مسؤولية جنودها الجرحى الذين أهينوا وتعرضوا للضرب بالعصي والسكاكين خلال اقتحامهم السفينة، تؤكد أن حكومة نتنياهو ليست مستعدة للتراجع عن مواقفها التي تكررها يوما بعد آخر بأنها هي الجهة المعتدى عليها وأنها تنتظر تفسيرات مقنعة من حكومة أنقرة بهذا الشأن!

محاولة وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس الأخيرة توجيه الأنظار نحو الاتحاد الأوروبي وتحميله المسؤولية الأكبر في انحراف مسار السياسة الخارجية التركية باتجاه الشرق؛ كونه لم يتعامل بجدية مع طلب العضوية التركية، لم تقنع الأتراك على ما يبدو بالحياد الأميركي في أزمة العلاقات التركية – الإسرائيلية، وفي قراءة مسار الأحداث بواقعية وموضوعية، فهناك إصرار تركي على إشراك واشنطن في تحمل مسؤولية التعالي الإسرائيلي ومواصلة التحديات والتصعيد. لا بل إن تركيا ترى أن إدارة أوباما بدل أن تلجأ إلى طرح موضوع العلاقات التركية - الأوروبية لتكون خشبة خلاصها، كان الأجدى بها الوقوف على مسافة واحدة من تل أبيب وأنقرة، على الأقل، أو الضغط على حكومة نتنياهو لتتعامل بجدية مع الاعتداء الذي أودى بحياة مواطنين أتراك مدنيين في عرض البحر.

أنقرة، كما فهمنا من مواقف وتصريحات قياداتها السياسية في الآونة الأخيرة، ترى أن العلاقات مع تل أبيب باتت عبئا لا بد من إنزاله عن الظهر بعد سنوات من المشقة التي لم تعرف إسرائيل قيمتها وأهميتها وتستثمرها في الانفتاح والتقارب على محيطها العربي والإسلامي، خصوصا أن حجم المغامرة التي قبلتها تركيا في تحرك من هذا النوع كان دائما محل شبهات وشكوك في كثير من العواصم الإقليمية. لكن الذي فهمناه أيضا، وهذا هو الأهم، أن تراجع العلاقات التركية - الإسرائيلية سيصحبه مراجعة للعلاقات الاستراتيجية مع كل من يقف إلى جانبها في عدوانها هذا، حتى ولو كان ذلك يستلزم إنزال حمولة أخرى عن الظهر رفعت لعقود طويلة باسم الشراكة الاستراتيجية، والمعني الأول هنا هو الولايات المتحدة الأميركية طبعا.

قيادة حزب العدالة والتنمية، وهي تترجم حجم النقمة الشعبية، تصر على تذكير إدارة البيت الأبيض أن مواقفها هذه لا تعني بالنسبة إلى الأتراك سوى الانحياز الكامل إلى جانب إسرائيل، وهي المعتدية بإجماع دولي شبه تام، مما يعني أولا تبني حكومة نتنياهو والوقوف إلى جانبها على طريقة «انصر أخاك..» وأن لا فائدة من المراهنة على مفاجأة إقليمية وعدنا بها أوباما قبل أشهر طويلة، لكننا لم نستشف حتى الآن بوادرها وخيوطها التي تحمل الأمل والفرج.

أنقرة التي تنتظر ردودا عاجلة من تل أبيب المتمسكة بأنها قالت كل ما عندها، منزعجة من اللامبالاة الأميركية وأسلوب واشنطن في حماية إسرائيل وتوفير الغطاء السياسي والأمني لها على هذا النحو الذي يشجعها على المضي في سياسة التصعيد والتحدي، متجاهلة حجم الخسائر المادية والمعنوية التي ألحقتها بشريك إقليمي رددت أميركا دائما ألا غنى عنه في قلب المعادلات الشرق أوسطية والدولية. باختصار، إذا كنا نفهم من خلال ردود الفعل الرسمية التركية الأخيرة أن حكومة أردوغان، التي تهدد بقطع الخيط الرفيع السياسي والدبلوماسي المحمي في علاقاتها مع تل أبيب، لن تتردد في تذكير واشنطن أن حبال علاقاتها معها هي أيضا مهددة، وأن الرد الأميركي الذي تنتظره وتراهن عليه أنقرة ليس بالضغط على الاتحاد الأوروبي لقبولها عضوا، بل على إسرائيل لوقفها عند حدها.

سبب تراجع العلاقات التركية - الأميركية يوما بعد آخر هو كما يقال في أنقرة خيار واشنطن إعطاء الأولوية لملف إيران النووي، عبر تحريك مجلس الأمن وتجاهل الجهود التركية التي قادت إلى اتفاقية طهران الأخيرة، وقبول أميركي واضح ومكشوف لما تقوله تل أبيب، مقابل تجاهل تام لاقتراحات تقديم موضوع حل الصراع العربي - الإسرائيلي التي تتبناها وتدافع عنها تركيا كخطوة أولى على طريق التهدئة في الشرق الأوسط.

حكومة أردوغان تصر على أن حكومة نتنياهو ارتكبت حماقة كبيرة في عرض المتوسط، لكن المؤسف هو أن تل أبيب تحاول إشراك واشنطن في ورطتها هذه، ليس لتنتشلها من مأزقها عبر التوسط بينها وبين أنقرة، بل من خلال كسب تأييدها ووقوفها إلى جانبها في ما فعلته. لا بل إن الحكومة التركية تستعد للقول بين لحظة وأخرى إن إدارة البيت الأبيض لا تختار هنا بين تل أبيب وأنقرة بل بين المعتدي والمعتدى عليه، وهذا ما يزعج الأتراك ويغضبهم أكثر من غيره.

حكومة «العدالة» بقدر ما تصعد ضد تل أبيب، تريد من واشنطن أيضا تحديد إجابتها حول سيناريوهات تردد عن أن الأخيرة تلعب بورقة العملية الإسرائيلية الأخيرة، ليس فقط لوقف تنامي الدور الإيراني الإقليمي، بل لمحاصرة رقعة الانتشار التركي، فتصيب عصفورين بحجر واحد. أم أننا أخطأنا في قراءة كل ما قيل عن دعم وتشجيع أميركي لحكومة أردوغان للمضي في سياستها الانفتاحية التي تساعد إدارة البيت الأبيض نفسها على إطلاق حلول ومبادرات تزيل حالات الاحتقان والتوتر في المنطقة؟