اللعبة الكبرى تطل من جديد

TT

ثورتان في 18 شهرا. وجيش وحكومة مشوشة، وعلاوة على ذلك كله الحرب العرقية التي تنذر بكارثة بالغة الفداحة.

تلك هي قرغيزستان، إحدى جمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية السابقة التي وصفت من قبل البعض بـ«سويسرا الثانية» والتي عقد عليها الأمل في أن تصبح واحة السلام والمساواة في المنطقة التي علتها الصراعات، لكن تلك الأمنيات كانت قبل وصول النسخة الجديدة من اللعبة الكبرى التي بدأت بين القوى الكبرى المتصارعة من أجل النفوذ في منطقة تتزايد أهميتها الاستراتيجية يوما تلو الآخر.

في البداية، كان التحرك في اللعبة الجديدة من جانب روسيا التي استعادت هيبتها تحت قيادة فلاديمير بوتين النشطة، لا حاجة للقول بالعدائية، الشغوفة بإحياء الإمبراطورية الروسية بصورة أو بأخرى، حيث عرض بوتين على جمهورية قرغيزستان الهشة مساعدات عسكرية واقتصادية شريطة إعادة إحياء عناصر الشبكات الشيوعية الموالية لموسكو تحت مسميات مختلفة. في الخطوة التالية كان دور الولايات المتحدة لتكتشف أن قرغيزستان، التي تجاور الصين، يمكن أن تكون مركزا مهما لمراقبة هذه القوة الآسيوية الهائلة. وزادت الحرب في أفغانستان من الأهمية الاستراتيجية لقرغيزستان.

كان المسار الطبيعي المفترض للأحداث بالنسبة للولايات المتحدة وروسيا أن تعذر كل منهما الأخرى على وجودها في قرغيزستان، إن لم تتعاونا على الأخذ بيد هذه الجمهورية الناشئة في عالم معقد. لكن الأمور لا تدور على هذا النحو في اللعبة الاستعمارية. ففي مثل هذه الألعاب تكون القاعدة الذهبية منع أي عدو محتمل فعليا من اكتساب نفوذ في المنطقة التي تعتبرها مهمة بالنسبة لخططك على السيطرة. ولهذا السبب دعم الروس ما سمي بالثورة التي أطاحت بالرئيس قرمان بيك باقييف من السلطة. وكانت أولى خطوات الحكومة الجديدة الإعلان عن نواياها إغلاق أضخم قاعدة أميركية تقدم الدعم لقوات الناتو في أفغانستان. وقد طمح الروس - يشجعهم في ذلك نجاحهم في تقسيم جورجيا، حليف الولايات المتحدة - في تكرار هيمنتهم على آسيا الوسطى.

وقررت إدارة الرئيس بوش - التي فشلت في حماية جورجيا - التمسك بقرغيزستان، وكانت تحركات بسيطة من واشنطن كافية لتهيئة الساحة لوقوع ثورة مضادة حققت النتائج المرجوة خلال عام من مغادرة الرئيس جورج بوش البيت الأبيض، حيث اقتيد باقييف إلى المنفى في بيلاروسيا وظلت القاعدة الأميركية في أمان. علاوة على ذلك كان ذلك الوقت الأنسب لاستهداف إغلاق قاعدة روسية ضخمة أخرى من قبل النظام الجديد، عندما خرجت روزا أوتونباييفا، الشخصية القيادية في النظام الجديد لتؤكد على نواياها تعزيز علاقات قرغيزستان بالولايات المتحدة الأميركية، وبطبيعة الحال كان السبب المنطقي لذلك هو الحرب العالمية على الإرهاب.

أدى كل ذلك إلى موقف لافت للنظر تعاون فيه حليفان غير متوقعين من بعضهما لتقويض النظام الجديد. جاءت الشرارة الأولى من العناصر الموالية لروسيا التي نظمت سلسلة من أعمال الشغب العفوية في العاصمة بشكيك. وعندما فشلت أعمال الشغب هذه في إسقاط الحكومة أقنعوا بعض الوحدات الصغيرة من القوات المسلحة المحدودة إلى عدم الانصياع لأوامر الحكومة. وعندما ثبت عدم كفاية ذلك في إعادة باقييف إلى الرئاسة مرة أخرى، تم تحفيز الأقلية الأوزبكية الموالية لروسيا في جنوب غربي البلاد لإحياء أحقادها القديمة ضد بشكيك. لكن ما الذي يفعله الأوزبك في قرغيزستان؟ ولماذا لا ينضمون إلى جمهورية أوزباكستان التي لا تبعد سوى مئات الياردات عنهم؟ تكمن الإجابة في علمية تقسيم الاتحاد السوفياتي في آسيا الوسطى التي أمر بها ستالين. حيث كان الدكتاتور السوفياتي يحكم بمبدأ الإمبراطورية الرومانية «فرّق.. تسد».

لهذا السبب كانت قرغيزستان دولة تألفت من أبناء عرقية القرغيز حيث اقتطع جزءا من دولة الكازاخ الكبرى لتتحول إلى إقليم مستقل باسم قرغيزستان. واخترعت اللغة القرغيزية من اللهجة الكازاخية واستخدمت لابتكار تاريخ وفولكلور وأساطير قرغيزية جديدة. لكن على الرغم من ذلك لم يقتنع ستالين، ولكي يتأكد من استمرار عنصر الفرقة داخل جمهورية قرغيزستان السوفياتية الجديدة، أضاف شريحة من أوزباكستان هي وادي فيرغانا الخصب وباتت مدن مثل أوش وجلال آباد، التي كانت مراكز لنفوذ الأوزبك لسنين، تابعة لقرغيزستان. وللسبب ذاته أضاف ستالين بعضا من الكازاخيين والطاجيك في أوزباكستان، وبعض الأوزبك في كازاخستان وطاجيكستان.

النزاع الحالي الجاري في المناطق ذات الأغلبية الأوزبكية من قرغيزستان ومن ضمنها مدينة أوش التاريخية يعد نقطة محورية. وخلال الأيام القليلة الماضية، صورت وسائل الإعلام الصراع على أساس حرب عرقية بين القرغيز والأوزبك. بيد أن هذا، ملمح سطحي لموقف أكثر تعقيدا. فأوش ووادي فيرغانا الذي يمتد إلى عمق دولة أوزباكستان المجاورة كان مركز ثورة إسلامية مسلحة، يشكل حزب التحرير الإسلامي عمودها الفقري، امتدت على مدى ما يقرب من عقد. ولطمأنة بشكيك على أن هدفهم الرئيس هو أوزباكستان امتنع الإسلاميون عن القيام بأي عمل ضد قرغيزستان، ومن ثم استخدمت قرغيزستان كملاذ آمن بالنسبة للجماعات الإسلامية العاملة ضد أوزباكستان منذ التسعينات. وردت السلطات الأوزبكية بإثارة الشعور الشوفيني القرغيزي ضد الإسلاميين.

ربما يكون عملاء الحكومة الأوزبكية قد تدخلوا في المراحل الأولى، على الأقل، من هجوم القرغيز على عرقية الأوزبك في أوش وجلال آباد، الذي أدى إلى فرار نحو 100000 من عرقية الأوزبك إلى أوزباكستان. ومن المفارقات الغريبة أن الحكومة الأوزبكية لن تعلم عدد المقاتلين الإسلاميين بين اللاجئين الجدد والراغبين في تحويل أوزباكستان إلى إمارة إسلامية على غرار نظام حكم طالبان. واستخدام المناطق القرغيزية كملاذات آمنة للعناصر الإسلامية المقاتلة من أجل استقلال إقليم تركستان في إقليم شنغيانغ الصيني. وسينضم إلى هؤلاء بضع مئات من جماعة التبليغ الباكستانية وبعض العناصر الموالية لطالبان الذين وصلوا إلى المنطقة في أعقاب سقوط الاتحاد السوفياتي لتحويل آسيا الوسطى التي تتبع غالبيتها النهج الصوفي إلى أداة سياسية مقاتلة في سبيل تحقيق طموحات قاتلة.

ومن ثم شاركت الصين، وبصورة أقل تركيا والهند وإيران وإسرائيل بأدوار صغيرة في لعبة آسيا الوسطى الكبيرة التي تدور رحاها الآن في قرغيزستان والتي راح ضحيتها المئات من القتلى وما يقرب من ربع مليون لاجئ. يمكن أن يقلب النزاع الدامي في ما كانت في السابق «سويسرا آسيا الوسطى» إلى «صومال جديدة» يمكن أن تصبح ملاذا آمنا لكل الإرهابيين الإسلاميين الفارين من أفغانستان.