لغط القاعدين

TT

من الأشياء الملفتة للنظر والمؤسفة حقا أننا - ولا أريد من البداية أن أسمي الأشياء بأسمائها - نميل في الغالب في تعاملنا مع الآخرين من الذين يشتركون معنا في الدين والثقافة بمعناها الواسع وتجمعنا معهم حدود مشتركة، استحضار نواياهم السيئة ومؤامراتهم المبيتة ضد الأمة العربية. والمفارقة أننا نصاب بالعمى وفقدان البصيرة حين يعلن المتآمرون حقا عن برامجهم الفعلية فتجد من بيننا من يتصدى مجتهدا قائلا إن الأميركيين وأتباعهم على سبيل المثال اضطروا إلى تدمير بيوتنا فوق رؤوسنا ومن تحت أرجلنا وقتل الآلاف منا ولا يزالون يفعلون لتخليصنا من الاستبداد الجاثم على صدورنا بمدد منهم. وفي كل مرة تنطلي علينا الحيلة من فرط ما أصابنا من المستبدين حتى يتبين لنا بعد حين أنهم استبدلوا مستبدا جديدا بمستبد قديم.

ولكن لأننا طيبون فإننا نبتغي لأعدائنا من الأعذار ما يعجز عن تصوره خيالهم الخصب. ولكن عندما يتعلق الأمر بدولة من دول الجوار الإسلامية، نسارع إلى رفع الرايات الحمراء ونجوب العواصم ذات النفوذ القوي لا لرفع الحصار عن غزة ولكن لإحكام الحصار على إيران.

ليس معنى ذلك أننا نهون من المآسي التي تسبب فيها الاحتقان الطائفي أو بالأحرى النفخ فيه بقوة كما حدث ولا يزال للأسف يحدث في العراق وفي أنحاء أخرى من العالم الإسلامي، وليس معنى ذلك السكوت عن الأوضاع السيئة التي يعيشها أهل السنة الإيرانيون، ولكن هذه القضايا على أهميتها لا تعالج بإشعال نار الفتنة بين المسلمين والاستقواء بالآخر لكي لا يخرج المسلمون من دائرة الجمع المستهلك، ذلك نوع بغيض من التنافس على الرداءة.

عندما انتصرت تركيا للقضية الفلسطينية بأقوال وأفعال غير معهودة في الدبلوماسية التركية، كان من المفروض أن نثمن هذه المواقف ونحييها كما فعلت شعوبنا بتلقائيتها المعهودة وكما فعلت قلة من أصحاب الشوكة مشكورين، ولكن بعض وسائل الإعلام العربية سكتت برهة ثم سارعت إلى التحذير من تأثير اللحظة الراهنة والانسياق وراء العاطفة الشعبية، وضرورة الانتباه إلى أن الأتراك بعودتهم إلى الواجهة الأمامية لا يفعلون ذلك تحقيقا لمبادئ الأخوة الإسلامية والتضامن الإنساني، وإنما لسحب البساط من تحت أرجلنا، وهل عندنا بساط حتى يُسحب منا؟ وأنهم يفعلون ما يفعلون استعادة لمجد انقضى وتمهيدا لسيطرة آتية. وعوض أن نبحث في أسباب هوان العرب بحثنا، وكما تعودنا أن نفعل، عن مبررات العطالة والقعود لنلقي عن عاتقنا حمل المسؤولية.

في كل مرة نوجه بوصلتنا في الاتجاه الخطأ، مرة نحمل المسؤولية للغرب الذي يخطط استراتيجيا لإبقائنا في حالة من الاستقالة الحضارية وهكذا يفعل، فالسياسة الغربية المعادية في أغلبها يمكن اعتبارها بمنطق الصراع والتدافع الحضاري في مفهومه المادي أمرا طبيعيا للغاية، فمن تصور أن الغرب سيكون في عون الشرق على النهوض واهم ومغفل، ولكن غير الطبيعي أن نستمر في خطابات التظلم والبكاء على حظنا العاثر ولا نفكر بجدية في التصدي للتحديات التي يفرضها علينا الغرب. ومرة نحمل المسؤولية لإيران وقوميتها الفارسية ومرة للأتراك الذين لم يتحرروا من وهمهم القديم. وهكذا سلسلة لا تنتهي من المبررات متصل بعضها ببعض.

من هنا وجب علينا تعديل الوقفة وتصحيح الوجهة والحديث بلغة واضحة وصريحة. إذا أخذنا المسألة من زاوية المصالح، فإنه من الطبيعي أن تكون لإيران مصالحها التي تسعى لتحقيقها في علاقتها بالعالم العربي، ومن الطبيعي أن تكون لتركيا مصالحها الاستراتيجية أيضا، ومن المفروض أن تكون لنا أيضا مصالحنا الخاصة، وفي إطار المصالح المتبادلة يمكن أن نطمح لبناء علاقة مثمرة ومتينة، ولكن للأسف لم تتعود الأنظمة العربية على الحديث بلغة المصالح. حديث واحد تتقنه هو المحافظة على السلطة كلها ولو كان ذلك مقابل التفريط في المصالح كلها.

القضية ليست قضية تآمر وأجندات سرية ضد العرب، وإنما القضية تكمن في ذلك الفرق النوعي بين أمة تتحرك ضمن استراتيجية تنموية شاملة في ضوئها تحدد خياراتها الكبرى وأمة تسير على غير هدى، تحكم مواقفها الردود الانفعالية.

وإذا نظرنا إلى المسألة من الناحية المبدئية فليس هناك من هو أحق بالدفاع عن القضايا العادلة من غيره. أهل غزة قبل أن يحاصروا من أعدائهم حوصروا ممن تعودوا على القول بأن القضية الفلسطينية قضيتهم المركزية. وإنه لمؤسف أن نسمع في أكثر من مناسبة وحتى من الذين أيدوا بصدق الموقف التركي من يقول متحسرا على تخلف الموقف العربي بلغة شوفينية أكثر تخلفا «أصبح الأتراك أكثر دفاعا عن القضية الفلسطينية من العرب أنفسهم»، أو «حتى الأتراك أصبحوا أكثر مبدئية من العرب».

أحدثت فاجعة أسطول الحرية شرخا في العلاقة بين إسرائيل وبين الوعي الإنساني العام، فمهما فعلت إسرائيل لن تستطيع بعد اليوم أن تلمع صورتها وأحدثت هزة في الوعي التركي لن يعود إلى ما قبلها، فهل تفشل في إحداث نقلة في الوعي العربي الرسمي؟ لا شك أن ذلك يكون ممكنا إذا اتسعت رقعة المشككين في الموقف التركي.

* أستاذ في المعهد الأوروبي

للعلوم الإنسانية بباريس