السعودية: نحو «مجتمع صناعي إنتاجي»

TT

إنتاج السيارة «غزال 1» في السعودية: رمز حي وموح بإمكان تحول البلاد من «مجتمع الاستهلاك» إلى «مجتمع الإنتاج»، أي رمز إلى إمكان التفكير العلمي، والإرادة الوطنية، ومباشرة التخطيط والتنفيذ، ورؤية الإنجاز وملامسته.. وهو رمز حي - كذلك - على إحراز أنصبة من «التقدم» - بمقياس العصر.. فمن تجربة أوروبا - وغيرها - : يتوكد أن «التصنيع» كان أقوى مؤشر، وأعظم برهان على «التقدم البشري» في المجال الدنيوي أو في حقل «الكونيات».

ويقتضي التوثيق التاريخي: التذكير بأن قضية التصنيع في البلاد قد ظفرت بـ«تنبه مبكر» من رائد النهضة ومؤسسها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود. فقد التفت هذا الرجل الفذ إلى جدوى التصنيع و«ضرورته».. ومما قاله في ذلك: «آن الأوان لأن يتعلم العرب الاقتصاد، وأن يسيروا في حياتهم على قواعده».. ولقد قرن قوله بالفعل. فمنذ أكثر من سبعين عاما أمر - مثلا - بتأسيس «الشركة العربية للتوفير والاقتصاد». وكان من أبرز نشاطاتها الصناعية: إقامة مصنع لأنواع كثيرة من المنتوجات. وإقامة مصنع متخصص في الإنشاءات العمرانية، وشجع المواطنين على إنشاء شركة الكهرباء السعودية «والكهرباء روح الصناعة».. وتتابعت بعد ذلك خطوات التصنيع في مجالات: الدباغة، وصناعة الأحذية والمصنوعات الجلدية، والثلج، وصيانة السيارات، والصناعات الكيماوية ومنها «دار الصناعة الكيماوية لصناعة الصابون».. وتزداد جهود الملك عبد العزيز قيمة وتألقا حين نعلم أن نهضته التصنيعية هذه نشأت في مجتمع «يغلب» عليه الاستنكاف من «العمل الحرفي» أو المهني «وهي عادة عربية قديمة عالجها القرآن - مثلا - بتقديم نماذج لرجال صالحين كبار يمارسون هذه الأعمال الصناعية منهم: النبي داوود عليه السلام، والرجل الصالح ذو القرنين رضي الله عنه».. لقد كان على المؤسس الرائد أن يقوم بعمل مركب في وقت واحد: تحرير القوم من عادات الاستنكاف عن الأعمال الحرفية أو الصناعية، وأن يدفع البلاد - في الوقت نفسه - إلى أن تأخذ بأهم عناصر القوة في هذا العصر وهو «الصناعة».. ولقد نجح في ذلك بحمد الله.

ولقد استمر الدفع إلى التصنيع من بعد.. ولئن تعذر استعراض جميع المراحل في هذا المقال المحدود الكلمات، فإننا نمثّل لاستمرار الدفع إلى التصنيع بـ«خطة التنمية الثالثة» الصادرة قبل ثلاثين عاما، إذ انتظمت هذه الخطة فصلا كاملا موسعا عن «التصنيع».. نقرأ في هذه الخطة: «تتركز السياسة الصناعية في المملكة على دعم الظروف المواتية لنمو الصناعات.. ولقد التزمت الدولة بتقديم الحوافز التشجيعية، والحماية للصناعات المحلية.. ولقد تحقق تقدم كبير في إقامة التجهيزات الأساسية، ولا سيما المناطق الصناعية التي أنشئت في جدة والرياض والدمام.. ومن الحوافز التي توفرها الدولة للصناعة الوطنية: تقديم قروض من صندوق التنمية الصناعية السعودي.. وإعفاء المعدات والمواد الأولية المستوردة من الرسوم الجمركية.. والإعفاء الضريبي.. وتقديم المساعدات في مجال الدراسات والتشغيل.. وتقديم الإعانات لتدريب الأيدي السعودية العاملة».. ثم شهدت نهضة التصنيع خطوات موسعة من خلال المدن الصناعية الضخمة في الجبيل وينبع وغيرهما.. وهي خطوات أثمرت إنتاجا صناعيا في أكثر من حقل: أثمرت الحديد والصلب والإسمنت والألمنيوم والبلاستيك والبتروكيماويات والزجاج ومشتقاته والمصنوعات الخشبية والأقمشة والملابس والمواد الغذائية والمشروبات.. إلخ.. إلخ.

ثم جاءت «القفزة النوعية» بإنتاج السيارة «غزال 1» لتعطي مؤشرا جديدا إلى التوغل الطموح في «حقبة التصنيع» الشاملة بعون الله جل ثناؤه.

ولا يستقيم الحديث عن هذه القفزة الصناعية النوعية دون الحديث عن «المناخ» الذي تحققت فيه، ونعني به مناخ جامعة الملك سعود العملاقة.. ففي هدوء علمي تام، وبطموح وطني محسوب ومدروس، وبرؤية مستقبلية مستبشرة احتضنت هذه الجامعة هذا الإبداع، وعكفت على هذا الإنتاج عكوفا انتهى برؤيته الحية السعيدة على أرض الواقع، وهو واقع ينقض كل دعوى تزعم أن العقل العربي عاجز - بحكم تركيبه «!!» - عن الإبداع والإنتاج، وعن تقديم إضافات جديدة وأصيلة إلى حضارة الإنسان.. لقد جددت جامعة الملك سعود الثقة بدور الجامعات الكبرى - في عالمنا الإنساني الواسع - في قيادة النهضات العلمية والتقنية والصناعية، بل جددت الثقة في جامعات عريقة - في تاريخ حضارة المسلمين - أسهمت بحظ وافر في بناء الحضارة الإسلامية والإنسانية عبر منظومة حقيقية وراقية من المبتكرات والمخترعات والصناعات - وفق تعبير العالم الأيرلندي الموسوعي الكبير جون برنال الذي قال: «ومن ثم تدفقت في هذا المجرى المشترك سلسلة من المخترعات لم تكن متاحة أو معروفة للتكنولوجيا اليونانية أو الرومانية. وقد أدت هذه المخترعات العلمية الآتية من علوم المسلمين وحضارتهم إلى قيام صناعات مثل: صناعة: الصلب. والصيني. والحرير. والورق. وهذه بدورها أرست قواعد أخرى استطاعت أن تحفز الغرب على ثروته التكنولوجية والعلمية الكبرى في القرنين: السابع عشر والثامن عشر».

وينشأ - ها هنا - سؤال اجتماعي حضاري جد كبير وهو: أن المجتمعات الأوروبية حين انغمست في حقبة التصنيع ارتجت رجة هائلة نشأ عنها انهيار القيم التي كانت سائدة من قبل، فهل هذه الظاهرة ملازمة - بالضرورة - لكل نهضة صناعية؟.. ثم هل يستطيع المجتمع السعودي وهو يتوغل في مراحل التصنيع أن يحافظ على قيمه؟.. للجواب عن هذا السؤال الحضاري الضخم يتعين التبصر العقلاني الموضوعي في المفاهيم والوقائع التالية:

1) إن مقولة: ينبغي التسليم بأن انهيار الأخلاق والقيم «ضريبة» - لا بد منها - تُدفع لمرحلة التصنيع.. هذه المقولة تشبه من يقول: إن تعلّم المثلث الهندسي - مثلا - مشروط - بالضرورة: بالعري أو الكذب أو شرب الخمر أو التمرد على الوالدين!

2) إن المجتمعات تختلف اختلافا كبيرا في نظرتها إلى القيم، وفي مقادير استمساكها بها، وفي درجة رجتها تحت وطأة التغيرات.

3) إن جمهرة مرموقة من فلاسفة «التغير في المجتمعات الصناعية» نقضوا فكرة أن «الحضارة الصناعية» إنما هي مقصلة حتمية للأخلاق والقيم.. ومن هؤلاء: س. ايريس صاحب الكتاب العمدة في هذا المجال «الحضارة الصناعية: ما لها وما عليها».. يقول ايريس في كتابه هذا: «إن القيم والمبادئ لا معنى لها ولا يتحقق وجودها إلا إذا تجاوزت الحياة الهزيلة الجاهلة للأفراد من الرجال والنساء».. والمعنى العميق لعبارته هذه: أنه في المجتمعات المتقدمة القوية العليمة: ينبغي أن تتفتح أكثر فأكثر: القيم والمبادئ. بمعنى آخر: أن التقدم هو في صالح القيم.. ويقول: «ولكي نجد طريق الخلاص ما علينا إلا أن نعيد اكتشاف المعيار القِيَمي الذي ظلت المدنية الإنسانية تلتزمه باستمرار.. ومن المقرر بصفة إلزامية وحتمية في عصر المحركات: أنك إذا شربت الخمر لا تقم بقيادة السيارة، وإذا قمت بقيادة السيارة لا تشرب الخمر، فلا بد من الاعتدال في جميع الأمور.. والحقيقة هي أن الأمانة واللباقة والصدق ليست أحسن سياسة فحسب، بل إنها السياسة الاجتماعية الوحيدة التي يستطيع أن يعمل في ظلها الجنس البشري حتى يتمكن من أن يعيش خيرا من الحيوانات في حضارته الصناعية».