خطاب أوباما بين الديماغوجية والتطبيق

TT

باراك أوباما، أول رئيس أسود لأغنى وأكبر قوة عظمى في العالم، وضعه فمه السريع الكلمات أمام محكمة التاريخ.

المراقبون أدهشتهم حملة أوباما الشخصية ضد شركة البترول العالمية «بريتيش بتروليام»؛ بضراوة غير مسبوقة.

الرئيس الأميركي يستعرض نفسه في التلفزيون، حافي القدمين على رمال الشاطئ ثم «يقرفص» على ركبتيه في «ميزانسين» صممه خبراء الدعاية ليمسك «بقرف» بكتلة رمال لصقتها بقعة بترول خام (يعرفها العرب بالنفط اشتقاقا من اليونانية naphtha التي تعني الإسفلت السائل؛ كما دونها المؤرخ الإغريقي إيراتوسثينيز القريني – 194 ق.م. – 276 ق.م. عند زيارته شط العرب)

مشاهد التلفزيون البريطاني، الذي اعتاد وقار ساسته بالبذلة الرسمية وربطة العنق، والتحدث بأدب شديد واحترام عن الخصوم قبل الأصدقاء، استغرب من انغماس رئيس الدولة العظمى في دعاية رخيصة.

كلنا طبعا قلقون على الحيوانات والطيور البرية البريئة التي هددها التلوث بالبترول، والكل يبحث عن وسيلة عملية لإيقاف تدفق النفط من عمق ميل تحت سطح مياه خليج المكسيك؛ وبدلا من أن يشاركنا الأميركيون (بإمكانياتهم الهائلة) في جهود إيقاف تدفق النفط، يشن كبيرهم حملة غوغائية بعبارات مثل «البترول البريطانية تعتدي على الشواطئ الأميركية» وغيرها من شعارات لا تسمعها إلا من البروباغندا الأحمدسعيدية من ديكتاتوريات العالم الثالث التي تضع معارضيها في المعتقلات وتمارس التطهير العرقي بالغازات السامة وتشن الحروب على الجيران.

أوباما أثبت أنه «كلامنجي» يطلق الشعارات الديماغوجية للحصول على أكبر كمية تصفيق دون قدرة على العمل الفعلي أو على تنفيذ الشعارات. فالوقت الذي خصصه لاستعراض «الجينز» والأقدام الحافية والهجوم على الشركة البريطانية، يفوق أضعاف الوقت والجهد الذي بذله لدعم القوات الأميركية التي تضحي بخيرة أبنائها في حرب أفغانستان الاضطرارية ردا على الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر (أيلول).

وربما انتقى أوباما ما يناسبه من دروس التاريخ كقصص ديكتاتوريات صغيرة تشغل إداراتها، وشعوبها، وإعلامها بمعارك خارجية كلامية (فأصحاب الشعارات الجماهيرية غالبا ما يفتقرون إلى القدرة التنفيذية)، فتتجه إليها الكاميرات وأنظار كاتبي عناوين الصحف، وتغافل فحص إخفاقات الديكتاتور التقليدي وعجزه عن وضع شعاراته الديماغوغية موضع التطبيق.

حرب أوباما الكلامية ضد شركة البترول البريطانية أدت إلى ظهور تيار شعبي أميركي غوغائي معاد لكل ما هو بريطاني، لدرجة أن مئات من محطات التلفزيون نفضت تراب المخازن عن أفلام هوليوود البالية عن التآمر والتجسس والجريمة العالمية، حيث تصور شخصية الشرير «كجنتلمان» إنجليزي من الطبقة الأرستقراطية أو الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة (من اللهجة التي يتحدث بها وزي ملابسه أو طريقة تناول طعامه) كشخصية نمطية stereotype سهلة التقديم على الشاشة الفضية رغم أن بريطانيا منحت مستعمرات الدنيا الجديدة (التي أصبحت أميركا) استقلالها قبل أكثر من قرن من اختراع السينما.

تقليديا يهز المتفرج البريطاني كتفيه لا مباليا، بل يضحك من النمطية الهوليوودية (مدى عظمة أي أمة أو فئة وقوة ثقتها بنفسها تتضح في قدرتها على المشاركة في الضحك مع الساخرين منها ومن رموزها؛ بينما الخروج في مظاهرة احتجاج ضد صورة كاريكاتورية ساخرة يدل على ضعف الإيمان والثقة بالنفس والشعور بعدم الأمان).

لكن إعادة بث هذه الأعمال الهوليوودية على مستوى جماهيري عريض، مصاحبة للحملة الهستيرية الغوغائية التي يشنها الرئيس أوباما على الشركة البريطانية كانت ملاحظة لم تفت المعلقين البريطانيين (وبالطبع لم يتظاهر بريطاني واحد احتجاجا أمام السفارة الأميركية)؛ خاصة أن هجوم أوباما واشتراطه أن تعوض الشركة البريطانية المتضررين (والشركة وضعت قرابة 35 مليار دولار جانبا لهذا الغرض طواعية) أدى إلى فقدان أسهم الشركة ما يقارب نصف قيمتها. أسهم الشركة تؤثر مباشرة على حياة ملايين من الذين يدخرون للمعاش عبر شركات التأمين والاستثمار التي تنمي قيمة استثمار المعاش بالاستثمار في أسهم الشركات الكبيرة مثل «رولز رويس»، و«بوينغ»، وشركات البترول العملاقة، كالبترول البريطانية.

أكثر الناس تضررا من هجوم أوباما الغوغائي على شركة البترول هم حملة الأسهم من المستثمرين مباشرة، أو من المدخرين للمعاش (وهي الفرصة الوحيدة المتاحة لغالبية العاملين في بلاد الغرب حيث يقتصر المعاش المرتبط بالوظيفة على موظفي الدولة والقطاع العام وهم الأقلية)، وهم الشرائح الفقيرة من أسفل الطبقات الوسطى.

الاستثمار في أسهم الشركة يتراوح ما بين الربع والثلث (ونحو 60% للبعض) من قيمة جملة مدخرات المعاش لفقراء بريطانيا. بينما يبلغ الرقم نحو 15% من مدخري المعاش الأميركيين أنفسهم (نحو 11 مليون أميركي)؛ ويبدو أن أغلبهم ليس لديه المعلومات الكافية بسبب طبيعة الإعلام الأميركي حيث لا توجد وسائل إعلام على المستوى القومي كحال بريطانيا مثلا التي تغطي 11 صحيفة يومية فيها كافة أنحاء المملكة، ويصلها بث الـ«بي بي سي» وثلاث شبكات أخرى.

الأمر الآخر الذي يخدع فيه نظام أوباما الرأيين العامين، العالمي والأميركي، هو إخفاء الحقيقة عن المسؤولية الحقيقية لتلوث مياه خليج المكسيك بالبترول الخام.

صحيح أن الشركة القابضة هي البترول البريطانية، لكن الشركة التي كانت تدير محطة حفر بئر النفط في الخليج، هي شركة «ترانز- أوشان» الأميركية؛ والمهندسون العاملون الذين أدى خطؤهم إلى الانفجار كانوا جميعا أميركيين ليس بينهم بريطاني واحد.

الصمامات والأنابيب التي أدى خطأ تصميمها إلى كارثة التلوث مصنوعة في أميركا بمواصفات أميركية قامت بها شركات هندسة أميركية؛ والمستهلك الوحيد (وأكرر الوحيد) لكل إنتاج بئر أعماق خليج المكسيك، هو السوق الأميركي ولا يصدر من الإنتاج برميل واحد خارج السوق الأميركية.

ولذلك أدعو المتحمسين الذين صفقوا طويلا لأوباما عقب خطابه العام الماضي في القاهرة (وقلت وقتها إنه كان ديماغوجيا ليس فيه ما يقبل التطبيق العملي) أن يعيدوا التفكير وتقييم الرئيس الأميركي، فيما إذا كان «كلامنجيا» مثل عسكر ديكتاتوريات العالم الثالث، أم من رجال الدولة الذين يعتمد عليهم في إنجازات عملية، كالرئيس جورج بوش الأب في تحرير الكويت، أو الرئيس جيمي كارتر في إنجاز السلام المصري الإسرائيلي، أو الرئيس جورج بوش الأصغر في إنهاء ديكتاتورية البعث العراقي ووضع التزام إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة على جدول الأعمال العالمي؛ في حين لم ير العرب من أوباما أي إنجاز عملي، سوى «جعجعة» كلامية تدين بناء مستوطنات يهودية في الأراضي الفلسطيني؛ «جعجعة» لم يعرها الزعيم الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التفاتا باكتشافه فراغ سياسة إدارة أوباما من استراتيجية قابلة للتنفيذ.