من يسبق الغزال؟

TT

تناقلت المواقع الإخبارية والصحافية العالمية خبر تدشين الملك عبد الله بن عبد العزيز «غزال1»، أول سيارة محلية الصنع من إنتاج جامعة الملك سعود. تأثير الخبر تفاوت ما بين البهجة والدهشة، بهجة القريب ودهشة البعيد الذي ظن أن بين دولة النفط الأولى في العالم وأطراف الحقل الصناعي مائة سنة ضوئية. إن أكثر الأحداث إثارة ما لا يمكن توقعه.

حينما بدأ استيراد السيارات بأعداد محدودة إلى جزيرة العرب بعد الحرب العالمية الأولى في عهد الملك عبد العزيز، كانت الفكرة مرفوضة من كثير من أفراد المجتمع القبلي آنذاك، حيث كان ينظر إلى التقنيات الحديثة كالسيارة والطائرة وجهاز اللاسلكي بأنها ضرب من ضروب السحر، بل أصبح تعاطي الملك عبد العزيز مع هذه التقنيات أحد أهم أسباب خلافه مع بعض شيوخ القبائل، وسببا من أسباب النزاعات وقتئذ. لكن هذه الأصوات الرافضة لم توفق في وقف رغبة الملك عبد العزيز لاستقبال كل صناعة حديثة وتحديدا السيارة، رغم أن الطرق كانت غير مهيأة لاستقبال الـ«رولز رويس»، والـ«مرسيدس»، والـ«فورد»، حيث الأرض الوعرة، والمجتمع المتخوف، لكنها كانت نظرة ثاقبة لرجل يرى المستقبل بعين زرقاء اليمامة.

وبمجرد انتشار صيت المركبة، تنادت أصوات النخبة المثقفة في ذلك الوقت لتوسيع دائرة استخدامها، فزاد عددها في أرجاء المملكة المترامية الأطراف والموحدة حديثا. إلا أن دخول السيارة في المناطق الجبلية كان أكثر صعوبة نظرا لطبيعة الأرض، فتأخر وصولها، مما أسهم في تكريس رفض أهل تلك المناطق لفكرتها. وأنا هنا أتذكر ما سبق أن سرده لي جدي محمد العقيلي الهزاني (رحمه الله) عن فترة توليه طارفة إمارة بلجرشي، إحدى مدن منطقة الباحة الجبلية جنوب المملكة، وكان ذلك عام 1952، حيث تلقى توجيها من الملك عبد العزيز بفتح طريق يصل إلى مدينته بلجرشي، وهي مدينة طريقها جبلي وعر وضيق لمن يعرف المنطقة. فبدأ العمل بأن استأجر اثنين وتسعين عاملا بأجرة خمسة ريالات يوميا لكل عامل، على نفقته الخاصة، ولم تكن الكلفة مادية بقدر ما كانت ثقافية، حيث واجه (رحمه الله) رفض الأهالي الذي وصل إلى حد التهديد بالقتل إن دخلت منطقتهم المركبة الشيطانية جالبة الفساد المسماة السيارة، على حد زعم بعض شيوخ قبائل المنطقة. كان العمل مشوبا بالمخاطر والتهديد في كل يوم من أيامه. لكنه رحمه الله أكمل المشروع، وفتح الطريق، وكان أول راكب لأول سيارة وصلت المنطقة وهي شاحنة من طراز «فورد 52» جال بها بين قبائل حملت في وجهه السلاح، فأصبح ذلك الحيز من الجنوب موطأ للسيارات كما في الحجاز ونجد والقصيم، وأصبحت السيارة جزءا من سعي أهالي المنطقة لتحصيل أرزاقهم.

أسترجع هذه الذكريات وأراجع وثائقها وأنا أقرأ خبر «غزال1» في موقع صحيفة «الإندبندنت» البريطانية. إن السيارة التي استوردها الملك عبد العزيز وفرضها على المجتمع القبلي برؤيته الاستراتيجية يتم تصنيعها اليوم في الرياض، في عهد أحد أبنائه، الذي قرر أن يخلق البيئة التي تحتضن الصناعة والبحث العلمي فولدت «غزال1» الخضراء الرشيقة.

وخلف هذا المنجز الجميل قيم جميلة كذلك، فـ«غزال1» التي خطفت الأنظار في معرض جنيف الدولي للسيارات عمل عليها فريق من ضمنه 48 طالبا من كلية الهندسة في جامعة الملك سعود كجزء من مشروع بحث التخرج، ويتطلع مركز نقل تقنية التصنيع بالجامعة الذي أنتج السيارة إلى أن تكون مشاريع بحث التخرج لطلاب الهندسة صناعات استراتيجية عالية الطلب ومكلفة في استيرادها، حيث يمكن تصنيع قطع تركيب المنتج محليا، وبالتالي يمكن تصنيعه والاستثمار فيه.

خلال المشروع، كان الطلاب يستقبلون مهندسين عالميين في صناعة السيارات، ويسافرون إليهم في إيطاليا وكندا والولايات المتحدة الأميركية، مما أسس لمعرفة نوعية وكمية كبيرة لدى المجموعة الطلابية التي عملت. القيمة هنا في توجيه العمل الطلابي البحثي إلى التركيز على السلع ذات الجدوى الاقتصادية، مما يعني تحويل التعليم التلقيني إلى تعليم مثمر، هذه السياسة خلقت الاقتصادين الياباني والكوري، وقادتهما إلى احتكار سلع عالمية عالية الطلب.

ولأن من السنن الكونية أن غزلان البراري تحيا قطعانا لا فرادى، فإن جامعة الملك سعود ممثلة في شركة «وادي الرياض للتقنية» تنوي استثمار «غزال1» لإنتاج 20 ألف قطعة سنويا بمشاركة رجال الأعمال.

إن دور الجامعة لا ينحصر في تقديم شهادة تخرج للطالب في حفل بهيج، وكذلك ليس من مسؤوليتها أن تتحول إلى مصنع، بل يتحدد دورها في البحث والابتكار وتطوير الخدمات والسلع من خلال الاستثمار في الطالب والباحث والأستاذ استثمارا يقدم بالنهاية إلى المجتمع سلعة مطلوبة كـ«غزال1»، التي انطلقت بسرعة 210 كم/الساعة، ولن يسبقها إلا من يستطيع أن يحاكيها.

* جامعة الملك سعود