حالة نفسية معقدة!

TT

فصول القلق الاقتصادي الأوروبي لم تنته بعد، ومسلسل التداعيات لا يزال مستمرا. مشكلة اليونان الكبيرة لم تكن سوى رأس جبل الثلج المنغمر تحت سطح الماء، وما هو آت قد يكون أهم وأخطر. اليوم يصور المحللون الماليون وخبراء الاقتصاد خطر الأزمة في دول الـ«Piigs»، وهي دول البرتغال وإيطاليا وآيرلندا واليونان وإسبانيا. وجميع هذه الدول لديها مشكلات مالية هيكلية خطيرة بسبب الاقتراض المبالغ فيه وانعدام الرقابة المالية المطلوبة والتشريعات القانونية الداعمة، وبالتالي فإعلان إفلاسها هو عامل وقت ليس أكثر خصوصا في حالة إيطاليا والبرتغال.

لكن المشكلة تتخطى الورطة المالية لبعض دول السوق والاتحاد الأوروبي. الموضوع يتعلق اليوم بمصير فكرة أوروبا الموحدة نفسها، فمنتقدو ما يحدث اليوم يؤكدون وجود خلل جوهري في فكرة الاتحاد الأوروبي المالي نفسه، لأن وجود عملة واحدة وبنك مركزي واحد وسعر فائدة واحد ليس كافيا، خصوصا في ظل وجود 16 اقتصادا تختلف تماما في معدلات الإنتاجية وتكلفة العمالة ومعدلات التضخم ومعدلات التوفير وغيرها من المؤشرات الاقتصادية المهمة والحساسة.

كل ذلك يظهر بجلاء وجود فجوة مهولة بين الشمال الأوروبي المنتج والقوي، والجنوب الأوروبي المعتمد تماما على الشمال والذي تحول إلى عبء وعالة واضحة. واليوم هناك أصوات في الشطرين الشمالي والجنوبي تعلو وتطالب بإعادة النظر في تكلفة الوحدة الأوروبية على البلدان؛ ففي دول الشمال يتساءلون: لماذا يتحمل «الشمال» تكاليف إنقاذ دول الجنوب المهملة والمقصرة في أداء دورها المطلوب من حصة إنتاجه وكده وجهده؟ والسؤال معكوسا يطرح في دول الجنوب: لماذا علينا أن نتحمل أعباء ضريبية مهولة وإزالة للدعم الحكومي في الكثير من الخدمات المهمة المقدمة لنا في سبيل أن نكون «مثل» دول الشمال، ونحن طبيعتنا «غير» وحجم اقتصادنا أصغر؟

هناك عدم انسجام وحدوي ولا ترابط في الأولويات بين دول أوروبا الموحدة يجعل الاتحاد القسري هذا مسألة معقدة. هناك اليوم حنين لأيام الدراخما والمارك والفرانك والبزيتا، وهي أيام كانت أسهل وأقل تعقيدا! هناك الكثير من التباين في تفاصيل العلاقات الاقتصادية الأوروبية البينية يجعل من التكامل الاقتصادي الأوروبي المطلوب مسألة معقدة؛ فسن التقاعد في ألمانيا 65 عاما، بينما هو في اليونان 53، وهناك فوارق مهولة في حدود الأجور الدنيا وكذلك بالنسبة لشروط التعاقد العمالية؛ كل ذلك وأكثر يجعل من عنصر الاتحاد الاقتصادي الأوروبي مسألة معقدة وفيها الكثير من التحدي والعمل،

لكن هذه هي التي تسمى بآلام النمو. هذا هو أول «زلزال» وتحد كبير يواجه منظومة السوق الأوروبية، مما سيجبر ساستها واقتصادييها على الجلوس طويلا على طاولات الاجتماع والتدقيق ومراجعة القوانين والأنظمة التي قام عليها الاتحاد الأوروبي، لأن التفاوت المهول بين دول الاتحاد سيخلق دائما أسيادا وعبيدا في هذه المنظومة.. دولا منتجة ودولا عالة ودمى.. وبالتالي ستكون هناك أثمان باهظة نتاج هذا التفاوت. المشكلة بطبيعة الحال أن هذا الحال الأوروبي ليس بحال خاص ومنفصل، لكنه مسألة عالمية تؤثر على الاقتصاد الدولي بصورة مباشرة، والأخطر بصورة نفسية غير مباشرة، وهو ما يفسر حجم اضطرابات الأسواق المالية اليوم.

[email protected]