عفريت حسن النية ولكن تنقصه المعرفة

TT

أنتقل اليوم للحديث عن مخلوقات أخرى هي العفاريت، وهي في تصوري ليست مؤذية بل هي تساعد البشر في أحوال كثيرة. وإذا كنت تتابع هذه الجريدة منذ بداية الثمانينات فلا بد أنك ستكتشف أنني حكيت حكاية هذا العفريت منذ ثلاثين عاما تقريبا. غير أنني أحكيها اليوم لجيل جديد أعرف أن التحليلات السياسية قد حاصرته لدرجة من الممكن أن تفسد استمتاعه بالحياة وهو ما يغريني بأن أطير به إلى عالم الحواديت والعفاريت لكي أضمن له ولو لحظات من متع الطفولة. في مكان ما بين السماوات والأرض حدث هذا الاجتماع للمكتب التنفيذي لجماعة العفاريت لمناقشة اقتراح تقدم به عفريت من المعروف عنه ميوله الآدمية، طبقا لوثيقة محضر الاجتماع، قال العفريت: انقطاع الصلة بيننا وبين البشر ليس في صالح أي منا، لأنه يصنع بيننا فجوة واسعة لا يستفيد منها سوى النصابين والدجالين الذين يشوهون سمعتنا عند البشر ويشعرونهم بالرعب منا من أجل الحصول على أموالهم.. أنا أقترح أن تسمحوا لي بأن أنزل إلى الأرض في مهمة محددة وهي أن أعمل جنبا إلى جنب مع الفلاحين في الحقول لكي يتأكدوا أنه لا يوجد فينا ما يخيف.

قال عفريت عجوز بابتسامة خفيفة: وماذا عن العمال..؟ من الواضح أنك ما زلت متأثرا بالثقافة الاشتراكية.. لا ترى إلا الفلاحين والعمال..؟ ماذا عن المثقفين والرأسمالية الوطنية..؟ لماذا لا تنزل وتعمل مع الكتاب والفنانين والشعراء؟

فرد عليه: هؤلاء يا سيدي كل منهم له عفريته الخاص، والخطر في الأمر أنهم ينكرون ذلك، أنا أريد العمل مع الفلاحين لأنهم أكثر براءة وخيرا.

تمت الموافقة على المأمورية، واستغرق الأمر بعض الوقت للعثور على فلاح ما زال يعمل بالفلاحة، وهكذا نزل صاحبنا على الفلاح المختار، كان نائما تحت شجرة، أيقظه العفريت بصيحة عفاريتي ربما ليعزز موقفه، أو للحصول على المزيد من الاحترام: ها.. ها.. أنا عفريت..

قال الفلاح برقة: أهلا وسهلا يا عفريت.. اتفضل استريح.. هاتي شاي يا بنت.

فقال العفريت: أقول لك أنا عفريت.. تقول لي اتفضل استريح؟ هل العفاريت تعرف التعب؟

فقال الفلاح: هل ستظل واقفا تتنطط أمامي..؟ اقعد من فضلك لكي أعرف ماذا تريد.

جلس العفريت وتكلم عن مهمته باختصار فرحب به الفلاح، وقال له إن التعاون بينهما يعلن عن بداية عصر جديد في تاريخ البشرية والعفاريت أيضا.. والآن هيا إلى العمل.. لا يجب أن تضيع منا لحظة واحدة.. اتفضل احرث لي هذا الحقل.

الحقل كان مائة فدان تقريبا حرثها العفريت في أقل من نصف دقيقة، ثم قال له: سنزرع هذه الأرض قمحا.. هذه هي البذور.. اتفضل.

بعد ذلك كلف الفلاح العفريت بالعناية بالمحصول إلى أن ارتفعت سنابل القمح في شكلها الناضج الجميل، الواقع أنه طوال المرحلة السابقة كان العفريت يقوم بكل شيء وكان الفلاح يمارس الفراغ والاستمتاع بالحياة، لدرجة أنه فكر في ترشيح نفسه لمجلس الشعب عن الفلاحين غير أن العفريت بوصفه شريكا له شعر بالغضب وطلب أن يترشح معه عن العفاريت إلى أن أقنعه الفلاح بعدم دستورية ذلك. والآن جاءت مرحلة جني الأرباح كما يقولون في تحليلات البورصة، فقال الفلاح: يا شريكي وزميلي العزيز.. لديك اختياران.. هل تأخذ الربع «اللي فوق» أم الثلاثة أرباع «اللي تحت».

على الفور قال العفريت بلا تفكير: آخذ الثلاثة أرباع اللي تحت.

فقال الفلاح: حسنا.. اقطع لي نصيبي وضعه في هذا المخزن.. وخذ نصيبك وضعه في المخزن المجاور.

في الصباح جاء العمال وعبأوا القمح في أجولة ثم حملوها على سيارات نقل وغادرت المكان، كان العفريت يراقب ما يحدث وقد منعته كبرياؤه من التساؤل غير أن الفلاح أنقذه عندما قال: الحمد لله بعت القمح بمبلغ محترم.

فقال العفريت بلهفة: وأنا.. كيف أبيع نصيبي؟

فرد عليه: لن تجد مشتريا لنصيبك.. إنه تبن لا أهمية له.

فقال العفريت بغضب وقد احمرت عيناه: ماذا..؟ وكيف تعطيني يا رجل تبنا لا أهمية له ولا ثمن؟

فقال الفلاح: وهل أنا أعطيتك شيئا..؟ أنت الذي اخترت.. أعترف أن اختيارك قد أدهشني، غير أنني قلت لنفسي هذا عفريت بالتأكيد يعرف ماذا يريد.. لا بد أن التبن عند العفاريت له أهمية خاصة لا نعرفها نحن البشر.. ربما يصنعون منه وسادات يجلسون عليها عندما يركبون الناس.. البشر فقط في حاجة إلى القمح أما العفاريت فمن الواضح أنهم ليسوا في حاجة إليه.. هذا ما فكرت فيه.

كظم العفريت غيظه وهو يداري إحساسه بالهزيمة، حسنا سيجيد الاختيار في المرة القادمة، عليه أن يختار الجزء العلوي، يعني «الشوية اللي فوق» ولذلك انتظر في صبر جميل موعد المحصول التالي وكان لفتا وجزرا وثمارا من ذلك النوع الذي ينمو تحت الأرض، وفي جلسة التفاوض المباشر من أجل تقسيم المحصول قال له الفلاح: لا أريد أن أظلمك هذه المرة ولا أريد لك أن تظلم نفسك.. فكر جيدا.. ماذا تريد.. الجزء «اللي فوق» ولا «اللي تحت»؟

طبقا لقاعدة أنه لا يلدغ عفريت من فلاح مرتين، اختار العفريت الجزء «اللي فوق» ثم تولى بهمة ونشاط وضع نصيبه في مخزنه، كما تفضل بوضع نصيب الفلاح في المخزن الخاص به، ثم قال للفلاح: غدا صباحا سآتي معك إلى السوق لكي أبيع نصيبي.

فقال الفلاح مندهشا: نصيبك..؟ ألن تأكله.. هو مجرد أوراق لا أهمية لها.. لقد تصورت أنك سترسله لجماعتك علفا للماشية.

فصرخ فيه العفريت: وهل لدينا ماشية يا رجل..؟

فقال الفلاح: كيف لي أن أعرف.. هل أنا عفريت؟.. لماذا لم تقل لي منذ البداية إنك عفريت جاهل بشؤون الفلاحة وشؤون البشر؟ على الأقل كنت سأقوم بتعليمك وتوعيتك.

في نفس الليلة قدم العفريت تقريره عن مهمته الفاشلة، فقال له العفريت العجوز: هناك سقف للقوة حتى لو كانت قوة العفاريت، لا تستطيع بالقوة وحدها أن تكسب شيئا، والاختيار لا بد أن تسبقه المعرفة، في غياب المعرفة ستفشل في كل اختياراتك، عندما تختار نصيبك في محصول، أو في مشروع، أو عندما تختار شخصا أو جماعة لتحكمك فعليك أن تكون على وعي بما سيفعله بك هذا الشخص أو تلك الجماعة.. حرية الاختيار ليس لها الأهمية التي تتصورها، الأكثر أهمية هو أن تعرف ماذا تريد.. انظر حولك، ستجد حشودا من العفاريت يعرفون جيدا ماذا يريدون، غير أنهم عاجزون عن معرفة ما يريدونه بالضبط.. ولا يهمك يا عزيزي العفريت الصغير.