الينابيع الأسيرة

TT

ألهانا السياسيون بالسياسة من أجل أن ننسى أنهم ليس لديهم ما يقدمونه لنا سوى طبخة البحص المزيف. حولنا كل شيء إلى سياسة وخطب وتعابير اجترارية، والآن ندفع الثمن. وسوف يكون الثمن أكثر فظاعة على أولادنا وعلى أولادهم.

كان في إمكان صدام حسين أن يعالج مسألة شط العرب على أنها قضية مياه، وقضية التقاء دجلة بالفرات، وقضية حياة، وقضية شعب مهدد، وقضية حقوق إنسانية بديهية. لكنه طرحها قضية زعامات، ونكايات، ومزق في وجه الشاه الاتفاقية، التي وقعها معه، وكأنما نكص العهود وإخلال الوعود ليس مخالفا للرجولة والبطولة والإطلالة من الشرفات على الناس ببندقية.

الآن يزحف ملح الخليج على شط العرب والفاو ليحولهما إلى جزء من ملوحة البحار. وإيران تقطع نهر قارون كاملا طوال عشرة أشهر من السنة. والعراق الجديد المفتت لا حول له ولا طول سوى أنه يحصي الخسائر والأضرار ودرجات الإذعان.

أكثر الناس بساطة يعرف أننا أمة تملك المصبات ولا قرار لها في الينابيع. الأنهار الكبرى الثلاثة، النيل ودجلة والفرات، التي هي رمز خصب الأمة، من مصر إلى «الهلال الخصيب»، يمكن أن تقطع عنا في حالة حرب أو حالة خراب، أو حالة اهتراء سياسي، كما هو حالنا اليوم.

جعلوا المياه، أو حياة الوطن والناس، موضوع نزاعات ومغامرات ومهاترات وفوقيات فارغة. وبنو آلاف الترسانات من دون أن يفكروا في بناء سد أو قناة واحدة. مزقنا معاهدات المياه برعونة الأطفال وحماقة الجهلة. ومنذ ربع قرن وخبراء العالم يحذرون بأن الحرب المقبلة سوف تكون حرب مياه، مالحة وحلوة. حرب الممرات البحرية وحرب السدود وحرب الينابيع، ولم نفعل شيئا. في كل دولة عربية، تقريبا، مشكلة مياه. وأبشع أزمة هي في لبنان، بلد الجبال والثلوج والأمطار، لأنها هناك مشكلة هدر وفجور في الهدر. يحلي سوانا مياه البحر، ونحن ندفق مياهنا على البحر كما ندفع بشبابنا إلى الخارج.

نحن في أسوأ وضع استراتيجي بين الأمم. ليس لأن أراضينا محتلة، بل لأننا نشرب ونزرع من مياه سوانا. نحن الغريق الأضعف، فريق المصب. وفريق الينابيع لا يكف عن تهديدنا. يعرف أننا سنواجه المسألة بقصيدة أخرى.