الحماقة أعيت من يداويها

TT

بما أنني من أكثر الناس تأثرا بالإعلانات والدعايات، فإنني لا أقرأ إعلانا أو أشاهد دعاية حتى أصدقها رأسا ومن دون تفكير. وأرجع البعض سلوكي هذا إلى شيء من السذاجة في شخصيتي، بينما أعتقد أنا أنه ناتج عن طيبتي التي تشبه طيبة أشعب وطمعه كذلك في بعض الأحيان.

وقد قرأت قبل مدة إعلانا عن مستشفى - لا أريد أن أسميه لكي لا يتأثر باسمه أحد - وقد جاء في الإعلان الكلام التالي: «في مستشفانا يرقد جميع المرضى ويتمتعون بأحسن صحة».

وعندما قرأت ذلك الإعلان كنت وقتها عاقدا العزم على الكشف العام (الصيانة) السنوية الدورية على أعضاء جسمي خصوصا الحيوية منها، فاتجهت وأنا مغمض العينين لذلك المستشفى لأنني أريد أن أكون بأحسن عافية، وفعلا أدخلوني وفرضوا علي أن أنام عندهم ليلة كاملة خضعت خلالها لكل الفحوص المخبرية وغير المخبرية، وكانت النتيجة ولله الحمد إيجابية - أي أنني «صاغ سليم»، وفوق ذلك «أدق سلف واعشّق حتى بالدبلات» كمان. شكرت ربي على ذلك، غير أنني لم أهجع تلك الليلة ولم أنم، من سماعي لتأوهات المرضى طوال الليل، وتتجاوب مع تلك التأوهات والآلام كركرات وضحكات الممرضات وحركاتهن في «الممرات الطويلة»، وكأنهن يمارسن اللعب في صالة «جمباز».

فما كان مني وقد طفح بي الكيل، إلا أن أنزع اللحاف من فوق جسدي، وأخرج لهن حافي القدمين وكأنني «عنتر حامل سيفه»، وصحت بهن مؤنبا على ذلك الإزعاج والركض وعلو الأصوات، والحقيقة أنني أخطأت عندما تلفظت عليهن بألفاظ غير لائقة، فما كان من إحداهن وكانت أطولهن لسانا وسيقانا إلا أن فرصعت عينيها وقالت لي وهي ترفع إصبعها في وجهي: «أحسن لك ارجع مكانك ولا تقل أدبك».

الواقع أن كلماتها تلك أصابتني بالعصبية أكثر، وكدت أقدم على فعل لا تحمد عقباه، لكنني تعوذت من الشيطان ورجعت إلى غرفتي وسريري وتمددت عليه وأنا ما زلت أغلي.

وفجأة خفتت الأصوات والضحكات، وحمدت ربي على ذلك، لكن ما كاد النعاس يداعب أجفاني، حتى فتح الباب فجأة، وإذا بتلك الممرضة صاحبة اللسان والسيقان الطويلة تدخل ومعها أخرى قصيرة و«ملكلكة»، طالبة مني أن أتهيأ لكي تعطيني «إبرة في العضل». حاولت الرفض والاحتجاج على أساس أنني لست بمريض طالبا منها حضور الطبيب، فقالت لي: «طبيب إيه وإحنا الآن الساعة الثالثة صباحا؟!».

وتعاونت الاثنتان علي وفعلا نالت هي ما أرادته مني - أي أنها شكتني (بجفاصة) من دون أي رحمة بإبرة طويلة لا يمكن أن أنساها من شدة الألم - وبعدها أغمي علي فيما أظن، لأنني لم أفق على حالي إلا في الثالثة عصرا، وكان وقتها يحلّق حول سريري بعض الزوار من معارفي، وجميعهم يقولون لي: «الحمد لله على سلامتك»، وعندما استفسرت وتعجبت من قلقهم الشديد هذا، قالوا لي: «إن لنا الآن أكثر من ساعة نحاول أن نوقظك من دون فائدة، وكنت طوال الوقت (تهذي) بكلام نخجل من أن نعيده ونذكره لك». سألتهم بقلق قائلا: «إن شاء الله ما كانت فضائح؟!»، فهزوا رؤوسهم بالإيجاب وكأنهم يقولون: «نعم».

وعرفت بعدها أن تلك الممرضة (النمسة) قد زرقتني بإبرة منومة قوية وسريعة المفعول، وأقسم بالله لو أنها زرقتها بثور لا بإنسان لوقع فورا بطوله على الأرض.

[email protected]