لن نعرف سر المدن والعصور. لن نعرف إلى متى سوف ننتظر، في القاهرة، ولادة أم كلثوم أخرى وأحمد رامي آخر. لن نعرف ما الذي دفع أحمد رامي إلى دراسة الفارسية وهو في باريس، بحيث يصبح أعظم من ترجم عمر الخيام إلى أي لغة أخرى. لن نعرف متى سوف يولد سيد درويش آخر. لا يمكن أن نعرف لماذا خلال سبعة عقود، من بين مليون حنجرة، ليس هناك حنجرة فيها أوتار فيروز. لا نعرف لماذا ولد في فيينا أدولف هتلر وموسيقى الفالس وسيغموند فرويد. لماذا في زمن واحد، كان في بيروت، الأخطل الصغير وسعيد عقل وأمين نخلة وعبد الله العلايلي وصبحي الصالح. لماذا فقط من سورية جاء الشعر الحديث، عموديا ومنثورا، نزار قباني وعمر أبو ريشة وبدوي الجبل وأدونيس ومحمد الماغوط؟ لماذا ولد أنيس وفايز الصايغ في عائلة واحدة، وكذلك سعيد وخليل ومنير تقي الدين؟
لماذا في عصر واحد كان هناك محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي ومحمد الموجي وكمال الطويل ومحمد القصبجي وفريد الأطرش والأخوان الرحباني، وليس في هذا العصر إلا الأرغن الكهربائي المعبأ «سح اندح انبو»؟ لماذا تجود المدن والعصور ثم تغور وتبور وتدخل الكهوف على طرطقة الواد شايل حماه وماشي؟
أين شارل ديغول؟ أين تشرشل؟ أين غروميكو؟ أين كاترين وأين فيكتوريا؟ أين الملازم بونابارت الذي جاء من جزيرة تدعى كورسيكا ليصبح إمبراطورا على أوروبا؟ لماذا لم يعد يخرج من كورسيكا أحد منذ مائتي عام؟ لماذا خرجت الفلسفة من أثينا؟ لماذا أعظم الرسم من إيطاليا؟ لماذا هولاكو وتيمورلنك من بلاد التتار؟ لماذا ولدت الشيوعية في ألمانيا وكتبت في لندن وعاشت في موسكو وماتت في برلين؟ لماذا ولد اليسار في ألمانيا والبروتستانتية في ألمانيا والنازية في ألمانيا؟ لماذا خاض رجلان لم يدخلا الكلية العسكرية أوسع حروب بلديهما، هتلر وصدام حسين؟ لماذا يصر الحلفاء على الاحتفال بسقوط ألمانيا في النورماندي وليس في برلين، حيث أطلق هتلر الرصاصة على صدغه في مخبأ جبان؟
ما هو سر العصور والمدن؟ لماذا نصر عبر التاريخ على أن يوليوس كان أعظم قياصرة روما، وهو لم يصبح قيصرا على الإطلاق؟ لماذا بدأت جميع الثورات بمجموعات من «الضباط الأحرار» وتحولت إلى ضابط حر لا أحرار ولا ضباط سواه؟ لماذا غاب العصر الجاهلي والأموي والعباسي في الشعر، ولم تعد في أي عصر أو زمن آخر؟ ما هو سر المدن والأزمنة؟ أين هو؟