القمر مخنوق

TT

لما جاء التكروني، أو الرجل الأفريقي ذو السواد اللامع، إلى بيتنا، تحلقنا حوله، كنا خمسة من الأولاد وبنية هي أختي، والتكروني هو رجل قادم من بعيد، ربما من السودان أو من تنزانيا. رجل مسلم سمرته لامعة، وبه خرم في أسفل أذنه اليسرى، كان يجيء في مواسم الحصاد ليفتح الكتاب ويقرأ الطالع، نسمع صوته قبل أن يصل، وهو ينادي على بضاعته بعربية ذات لكنة غريبة «الكتاب.. معنا الكتاب». كانت أمي تناديه كي يفتح لنا الكتاب ويقرأ الطالع، وكان التكروني يجلس تحت شجرة الجميز التي أمام البيت في ساعة عصاري. كنت في السنة الرابعة الابتدائية، ولم تكن لدي أحلام أكبر من ركوب الجميزة، أو تعلم العوم، يمضي الوقت وأنا أرقب الجاموس الذي يبرك في الترعة التي أمام بيتنا وهو يرش المياه بذيله على ظهره. لم نعرف التلفاز، ولم نر من العالم إلا ما حولنا من نخيل خارج البيت وفي وسطه، وأشجار الدوم. مرات يمر أتوبيس كبير على الطريق الغربي، ربما مرة في اليوم، وكان البعض يرميه بالحجارة، ربما لأننا كنا نراه كائنا غريبا عن عالمنا الذي نتنقل فيه بالجمال والخيل والحمير، وزينة لتركبوها. ومع ذلك كانت الحداثة تتسرب إلينا كما يتسرب ماء الترعة القادم من النيل أيام الجفاف ليدخل في شقوق الأرض، إذ كان في القرية موظف واحد يركب عجلة (دراجة) وكان جيل أبي يسميها بـ«جحش الحديد». ولما انتشر الراديو عندنا، كان عواجيز القرية منبهرين به، قال أحدهم: «مكتوب في القرآن، حتيجي القيامة لما الحديد يتكلم»، وتكلم الحديد أمامنا، وكنا كلنا في انتظار القيامة. كان مجيء التكروني وفتح الكتاب بمثابة النظر من كوة أو طاقة صغيرة على الغيب، وأي غيب وقد اقتربت القيامة واختنق القمر، واختناق القمر عندنا علامة من علامات القيامة، ومع ذلك فقد شكل كتاب التكروني علاقتي بالكتب، فهي كوة نرى منها المستقبل أو نصنعه.

عندما يختنق القمر عندنا، وهو ما عرفت فيما بعد أنه الخسوف، كنا نخرج عن بكرة أبينا، نضرب الدفوف في الشارع ونغني في حزن «يا بنات الحور سيبوا القمر، دا القمر مخنوق توه اللي ضهر»، كنا نتصور أن بنات الحور هن من يمسكن بتلابيب القمر يخنقنه، كانت أغنية حزينة وطويلة لا أذكر منها سوى سطور تنتهي بأن «فاطنة بنت النبي عملت رز بلبن، حلفت ما دوقه لا إن فتح القمر»، فتح بتشديد التاء أي انجلت عنه الغيوم وأشرق ثانية، ولكننا لا نستخدم الإشراق أو الشروق إلا للشمس التي ننطقها بلهجتنا المحلية «شمش».

وفي اليوم التالي لاختناق القمر، جاء التكروني ذلك الرجل ذو الوجه الأسمر اللامع، توقف عند بيتنا وخرجنا للقياه تحت الجميزة. نظر في وجوه إخوتي واختارني من بينهم، وقال «سيكون لك شأن» هكذا نطقها من دون الهمزة، «تسافر بلاد بعيدة، وتتكلم لغوه لا نعرفها، وتتزوج هناك، وما تجيك أولاد، ويتوفى المكتوب وفي الطريق تتزوج تاني، وياتيك الخلف». لم يكن هذا ما تبحث عنه أمي في قراءة الطالع، بل كانت هناك أشياء أكثر إلحاحا لديها تخص صحة أبي، وتخص الوسع في الرزق. لم تهتم بما قاله عن مستقبلي البعيد لأنه كلام فارغ، فهو لم يقل شيئا يخص المستقبل القريب، تحدث عن مستقبل طفل في الثامنة أو التاسعة من عمره، فلا زواج هذا الطفل الآن هو قصتها ولا سفره ولا لغته التي سيتعلمها.. حاجات الدنيا السريعة والملحة كانت أهم لديها من ذلك وأبقى. لم تنشرح أسارير أحد فينا، وأعطت أمي الرجل قرشا واحدا، وتركنا ورحل، وفقدت أمي الثقة في قراءته، ولم يعد يتوقف عند بيتنا. لم نتذكره إلا عندما حصلت على منحة الفولبرايت الأميركية بعد التخرج من جامعة أسيوط بسنوات، وذهبت إلى أميركا عام 1985، وقتئذ لم يكن لأمي هم سوى كتاب التكروني، خائفة من أن أتزوج امرأة من هناك. وبالفعل عدت من أول بعثة إلى أميركا ولم أتزوج، وذهبت ثانية إلى هناك بعد عام من العودة الأولى وحصل الزواج، وكان أحيانا يخطر على بالي ما قاله التكروني من أن هذا الزواج لن يدوم. الزواج فعلا لم يدم، لا أدري إن كانت تلك نبوءة، أم أن التكروني نفسه هو من زرع في الزواج الأول بذرة فنائه يوم تحلقنا حوله تحت الجميزة. لدي غرام ببيتنا وحياتنا، وكانت أمي وأبي وإخوتي هم عالمي لا أرى العالم إلا من خلالهم، كنا قانعين بحالنا وأحوالنا. وعلى الرغم من البعد بين أميركا والصعيد، فإنني وطوال رحلتي، ومنذ ما يقرب من ربع قرن، لم يطلع صباح واحد إلا ورفعت سماعة التليفون وتحدثت إلى أبي وأمي على الأقل. وتلك عادتي حتى اليوم، ما تغير فيها هو أنني لم أعد أسمع صوت أمي إلا في رأسي، ومن يوم غيابها وأنا أحس بأن القمر مخنوق. وأحيانا أمسك نفسي متلبسا بالغناء في شوارع واشنطن أو لندن، كما كان الصبي الجنوبي يغني تحت الجميزة، «يا بنات الحور.. سيبوا القمر».. وتلك مقدمة كتبتها لكتاب سيصدر لي باللغتين العربية والإنجليزية عن رحلتي من أعالي الصعيد إلى واشنطن، رحلة أكثر من ربع قرن أتنقل فيها في الزمان والمكان، ولكن روحي كما ذكرت في مقال الأسبوع الفائت لم تكن مختلفة عن (قطة) في علاقتي بالقرية التي ولدت وأعيش فيها، على الرغم من ربع قرن من التنقل بين واشنطن ولندن، ما زالت روحي تسرح في القرية، آكل من أكل أهلها وأشتم رائحتهم، وبعض الساعات تلسعني نار عذاباتهم. كما أنني مثل أهلي هناك أؤمن بخرافاتنا لأن فيها هويتنا. وضمن هذه الرؤية، لم تكن رحلتي إلى واشنطن أو إلى لندن هي نقلة هجرة، بل كانت أشبه بحالة القطط، كنت موجودا هناك وموجودا هنا، ربما كل الوقت لا معظمه فقط. ومن هنا ومن تلك المساحة بين الوجودين أكتب عن الزمان والمكان والعمران.

بين القطط المسكونة بأرواح الأطفال التوائم التي تتسلق حيطان البيوت في قريتي، وبين القطط التي تقفز على أسطح بيوت الحواضر العربية القديمة في مواسم العشق والتزاوج.. بين المعمار القائم على أساس عاطفي وبين المعمار الذي يقسم المكان لا الزمان.. وبين التأمل في زمانية الإسلام ومكانه، وبين تناسب المعمار بين الزمان والمكان وتأثيره على النفس.. بين كل هذه اللخبطات الفكرية التي تراود رأسي، تصبح صغائر الأشياء التي كبرت عليها في أقاصي الصعيد، وعلى الرغم من الخروج من المكان، هي المحدد الأهم لهويتي الشخصية ولرؤيتي لنفسي والعالم من حولي، أو هكذا قدر لي، أو هكذا قال التكروني.