الثورة الإيرانية: العام الثاني

TT

في عام 1985 - عندما لم يتخيل أي مسؤول حكومي وقوع مظاهرات واسعة النطاق تطالب بالديمقراطية كتلك التي وقعت قبل عام في مثل هذا الأسبوع - ألحقت بشعبة إيران في إدارة العمليات التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. كان أحد زملائي رجلا مسنا التحق من الرعيل الأول الذي دخل الوكالة في أيامها الأُول، عندما كان الوطنيون الأحرار والاشتراكيون الصقور يقومون بإدارة غالبية البرامج السرية الأميركية.

كان الرجل حاد الذكاء طيب القلب (بالنسبة لعميل) ومؤيد لليسار في العمل السياسي. لم يكن زميلي يكترث للحدود الوطنية إذا ما تعلق الأمر بمناصرة حقوق الإنسان. بإمكان الرجل التحدث لساعات حول السبب وراء كون الفيلسوف النمساوي كارل بوبير، مؤلف كتاب «المجتمع المفتوح وأعداؤه» الإجابة للحكم الاستبدادي في إيران. كان الرجل الأكثر حماسة ورغبة داخل إدارة القسم ويخطط للقيام بأمر ما لمساعدة الإيرانيين ضد حكم آية الله روح الله الخميني الديني.

وكما تبين فيما بعد، أحب الكثير من المفكرين الذين قادوا الثورة الخضراء المتنامية المؤيدة للديمقراطية بوبير ودفاعه عن الديمقراطية الليبرالية. ولم يتوقف الرئيس الإصلاحي الأسبق محمد خاتمي، المغرم بالفلسفة الغربية والديناميكيات الاقتصادية للديمقراطية الليبرالية، عن الكتابة حول بوبير. كما أبدى الكاتب الأكثر نفوذا عبد الكريم سوروش، الفيلسوف الديني الإيراني الذي ربما يكون المفكر الإسلامي الأهم في العالم الإسلامي بعد الغزالي، الذي عاش في القرن الحادي عشر، تقديرا كبيرا للفيلسوف النمساوي وجهوده لتكوين عقيدة تزدهر في مجتمع أكثر ديمقراطية وأكثر انفتاحا.

وعندما أفكر في التغييرات التي شهدتها إيران على مدى العام الماضي، يرد إلى ذهني زميلي الذي يفضل العمل السري، وكارل بوبير والحشود المطالبة بالديمقراطية والمفكرون الدينيون الإيرانيون الذين يسهمون في تحول ثقافة بلادهم وأخلاقياتها، فهم أدلاؤنا إلى ما يجب أن تكون عليه الولايات المتحدة فيما يتصل بإيران. وهم أيضا وخز لضمير الرئيس أوباما على تساهله حتى هذه اللحظة مع السياسة الإيرانية.

في الوقت الذي لم تتمكن فيه إدارة ريغان من تقديم الكثير للشعب الإيراني (جهود ريغان الحثيثة لإشراك النظام الديني في إيران في المفاوضات حول الرهائن في لبنان لم يعزز من موقف المعتدلين في طهران) يمكن لأوباما أن يقوم بالكثير. فتأييده للحركة المطالبة بالحرية يمكن أن يزيد من الضغوط على القيادة الإيرانية بأننا لن نضطر للعيش مع القنبلة النووية التي يسيطر عليها رجال دين يضمرون العداء للولايات المتحدة والسامية. ويحتاج الديمقراطيون، الذين كانوا من قبل قادة الحركة المنادية بالديمقراطية، إلى إدراك أن النفع الذي يمكنهم القيام به لصالح الشعب الإيراني يتجاوز مقدار الضرر الناتج عن الصمت.

ولكي تقدم الولايات المتحدة يد العون، فنحن بحاجة في البداية لأن نرى بوضوح ما يحدث فعليا داخل إيران منذ وفاة آية الله الخميني عام 1989 وحتى العام الماضي. في بداية الثمانينات عندما كان الشباب الإيراني مفتونين بكاريزمة الخميني كان من الصعب تخيل أن يقوم هذا المجتمع المسلم في خلال عقدين بالمشاركة في أقسى انتقادات للاستبداد شهدناها في الشرق الأوسط.

وأحد أبرز أسباب هذا التغير تكمن في العقم الفكري للنظام.

لا يزال آية الله محمد تقي مصباح يزدي، المرشد الروحي للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، يلعب دورا بارزا، لأنه يعتقد أن الإنسان والله تجسدا في اتحاد قوي في الجمهورية الإسلامية.

كانت الحركة الخضراء نتيجة للتحول الثقافي والسياسي، الذي كثيرا ما رغبت الولايات المتحدة في رؤيته يحدث في الشرق الأوسط، خاصة في أعقاب 11/9: فهناك حركة ديمقراطية ليبرالية، علمانية بدرجة كبيرة في أهدافها السياسية والفلسفية، تمد جذورها داخل الطبقة الوسطى الكبيرة في إيران، بل وحتى في أوساط قسم كبير من الشباب الإيراني الجامعي.

والحركة متشابهة في تطلعاتها ووسائلها لما حدث خلف السور الحديدي في الثمانينات. إذا تتمثل أهدافها في دمج اليائسين روحيا من المفكرين الليبراليين وأصحاب الرواتب المتدنية والشباب (أكثر من 60% من السكان الإيرانيين أقل من 30 عاما) وعلماء الدين المعارضين لخامنئي، وربما الأهم من ذلك الرعيل الأول من الثوريين في السبعينات الذين تعرضوا للضيم على يد آية الله علي خامنئي، الذي يفتقر إلى كاريزما الخميني، والذي يعاني من جنون الارتياب. وتعتبر الحركة أيضا أبرز إعلان في الوقت الحاضر (الأول كان لدى انتصار محمد خاتمي برئاسة الجمهورية عام 1997) عن الغضب المنتشر من قبل النساء على تدني مرتبتهم إلى الدرجة الثانية في الجمهورية الإسلامية.

تعتبر الحركة متفردة في التاريخ الإسلامي: فهي ثورة فكرية تهدف إلى حل سلمي وديمقراطي لمعضلة المسلمين الكبرى حول السلطة الدينية والتعاون الثقافي. وكيف يمكن لأشخاص معتزين بهوياتهم تبني الأفضل (والأسوأ) من الغرب مع الحفاظ في الوقت ذاته على الهوية التاريخية المحبوبة بدرجة كبيرة؟

الملايين الذين صوتوا عام 1997 وعام 2001 لخاتمي، رائد الدعوة إلى تكامل الثقافات، كانت تخبرنا بأن الأمر لم يعد حقا مشكلة. فقد فشل محمد رضا بهلوي، الذي حكم إيران منذ عام 1941 وحتى الثورة في تحقيق حلمه بتحويل الإيرانيين إلى ألمان. بيد أن 30 عاما من الحكم الثيوقراطي قامت بأمر مذهل تمثل في تغريب المرجعيات الثقافية والسياسية الإيرانية.

وعلى الرغم من أن أحداث الشغب التي وقعت العام الماضي لم تسقط حكم الملالي، فإن الجمهورية الإسلامية غير مستقرة على الإطلاق، فكل عطلة قومية تتحول إلى يوم احتجاج، ولا بد للنظام من أن يرسل بمئات الآلاف من قوات الأمن كما فعلت خلال الأيام التي سبقت الاحتفالات بالذكرى السنوية الأولى التي وافقت يوم السبت.

الوحشية التي مارسها آية الله خامنئي ضد الحركة الخضراء الصيف الماضي - اتهمت القوات الحكومية بالقتل والتعذيب والأكثر إثارة للصدمة، الاغتصاب - ربما تكون قد كلفت النظام ثمنا باهظا بتحول بعض أبرز أقطابه الذين يشكلون حجر الزاوية بالنسبة لقوة المرشد الأعلى.

لا يزال مير حسين موسوي، أبرز قادة الحركة الديمقراطية، حيا وطليقا، وربما السبب الرئيسي في ذلك هو خوف النظام من موجات الصدمة التي يمكن أن تنتج إذا ما تعرض لأذى، لأنها لم تتمكن من احتواء مظاهرات الشارع. ويدرك آية الله خامنئي جيدا كثرة أعداد أعدائه والأوضاع الملتهبة داخل الدولة.

بيد أن الرئيس أوباما - الذي اعترف بعد وقت طويل بالحركة الخضراء كاحتجاج على الاستبداد - الذي ربما يعرض عن الحركة الديمقراطية الإيرانية تماما إذا ما قرر خامنئي الحوار مع واشنطن حول البرنامج النووي. ويبدو أن الرئيس يميل بشدة إلى فكرة الحوار. فقد أكدت الإدارة على أن العقوبات التي دفعتها إلى مجلس الأمن قبل أسابيع صيغة متدرجة من الضغط ومرتبطة بأفعال طهران. وتأييد الحركة الخضراء أكثر إشكالية سواء من الناحية السياسية أو الأخلاقية. فالحركة لم تعد مجرد حركة تهدف إلى جعل الدولة أكثر ليبرالية بل إلى تغيير النظام.

من المتوقع إلى حد بعيد أن يلجأ آية الله علي خامنئي إلى المساومة على الأسلحة النووية إذا ما شعر بأن نظامه على وشك السقوط على يد الحركة الخضراء، ومن ثم يجب أن يعمد الرئيس أوباما - ناهيك عن الإدراك التاريخي والاستراتيجي لما يحدث في إيران - إلى تنفيذ مطلب الحركة الدائم من واشنطن، بدعم اتصالاتها.

فالمعارضة بحاجة، على نحو خاص، إلى الوصول إلى وصلات الإنترنت المرتبطة بالقمر الصناعي، على عكس الاتصالات الأرضية، فالاتصالات التي تعمل عبر الأقمار الصناعية يصعب على الحكومة إغلاقها، ومراقبتها ستكون أشبه بكابوس تقني بالنسبة للنظام. تحتاج المعارضة إلى مساحة أكبر للوصول إلى مجموعة متنوعة من الأقمار الصناعية التي يمكن الوصول إليها في إيران - من بينها عرب سات الذي أطلقته الجامعة العربية عام 1976 وقمر يوتل سات الفرنسي.

وتحتاج حركة الديمقراطية أيضا إلى إمدادات كبيرة من كروت بث الفيديو الرقمي التي تعمل بصورة كبيرة مثل كروت الهواتف المدفوعة مسبقا، وتمكن من تحميل ورفع المحتوى الرقمي من الأقمار الصناعية. وقد أجرى خبراء التكنولوجيا في الحركة الخضراء حسابات سريعة: يمكن لـ50 مليون دولار في العام أن تجعل البلاد بالكامل منفتحة أمام الإنترنت. ولكن، يمكن لملايين أقل أن تسمح للتنظيمات المتنوعة المناصرة للديمقراطية بالتواصل مع بعضها البعض، وتواجه القوات الأمنية التابعة للنظام الحاكم بصورة أكثر فعالية. وبالمقارنة مع ما قامت به الولايات المتحدة سلميا من أجل مساعدة المناوئين للشيوعية خلال الحرب الباردة، ستمثل هذه المساعدات شيئا بسيطا من الناحية المالية والعملية.

وقبل أسبوع واحد فقط من الانتخابات الإيرانية الصيف الماضي، أدلى الرئيس أوباما بخطابه للعالم الإسلامي من القاهرة. وخلال كلمته، تحدث أوباما عن «الانسجام بين العرف والتقدم» في الإسلام عن طريق وضع مركز التعليم الديني الأقدم في مصر، جامعة الأزهر، إلى جوار جامعة القاهرة، التي كانت من أرفع المؤسسات العلمانية في المنطقة. ولكن هاتين الجامعتين، وما تمثلانه، أشبه بلعبة شد حبل خلال أكثر من قرن من الزمان.

وكان نقص الانسجام – والتوتر الدائم بين بحث المسلمين عن الأصالة وحب المسلمين للتغريب – السبب في تحطيم رئاسة محمد خاتمي الإصلاحية في إيران. المعركة الأساسية ليست بيننا وبينهم، ولكن داخل الإسلام نفسه. ولكن، لا يبدو أن الرئيس أوباما يفهم أن الولايات المتحدة جزء لا يمكن تجنبه من هذا الصراع العنيف المتزايد. وفي الواقع، فإننا نريد من أحد الأطراف أن يفوز: أصدقاء كارل بوبير.

* زميل بارز في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، وكان متخصصا مسؤولا عن شؤون الشرق الأوسط بخدمة سرية تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية

* خدمة «نيويورك تايمز»